إلى أين يريد الهجرة هذا السيد المهذب، الذي أحبه كل ما في الوطن ..

قلت لنفسي كيف يهاجر هذا الإنسان الرائع، ويترك البلاد التي ترعرع فيها وأحبها؟

كيف ينام على فراش الغربة؟

أي طعام سيختاره لمعدته؟

وأي عشب أخضر وأية صحراء سيقطع؟

أي بحر وأية مدينة سيسكن؟

ما كنت أصدق نفسي وأنا أرى جواز السفر بين أصابعه، يقول لي: “يا صديقي لقد أرهقني شئ ما .. ولابد لي أن استجيب .. إنه النداء.. ولم أفهم لكلامه معنى في ذلك الوقت.

والسيد المهذب الذي أحبه كل ما في الوطن .. ظل معنا .. وكأنه لم يغادرنا ..

كيف يكون ذلك .. إنه يعيش غربته .. ونحن نعيش هنا على صدر الوطن ولكنه معنا ويفكر فينا .

ما كنت أعلم زرقة البحر ولا خضرة الوطن إلا بعد أن عرفته ..

هو الذي أراد الهجرة .. وهو الذي أراد العودة ..

هو الذي عاش مثل طفل نقي ..

وهو الذي علمني الصبر والرجولة ..

هو الذي صار نافذة مفتوحة إلى العلو .. سحابة بيضاء أمشي خلفها إلى القمر البهي ..

إي سر كان وراء ذلك الإنسان الطيب! ..

لقد علمنا جميعا أن نعشق كل شبر .. وكل واد .. وكل نخلة .. وكل طفل .. وكل قطعة أثرية عليها وشم الأجداد.

لماذا يسافر هذا الإنسان ويترك الدنيا تغرق خلفة في السؤال؟

ولقد ترك جسده هبة للرصاص .. وهدية ومنحة للوطن

لقد تسمّرتُ أمام الشاشة .. أشاهد إلتحام جسده بتراب الوطن الطاهر والعشب الأخضر يحتضن قلبه النابض ..

وتسمّرتُ وراء الشاشة .. أخجل من نفسي أمام هذا الحب الكبير ..

عشرات السنين، سنة بعد أخرى، ويوما بعد يوم ..

ليس من شارع أو زقاق أو حي أو بيت إلاّ وذهب إليه ..

وكتب له بالحبر الأحمر عشرات الرسائل..

أي عرس! وأي عيد!

وأي شروق باهر أن يذهب هذا الإبن العزيز إلى إخر شبر من أرض الوطن .. ليحارب الطاغوت .. وينقضّ على الأفاقين ..

أي فخر أن يستشهد الإبن البار على صدر إمه الحنون، بين روائح الكمون والياسمين .. والزهر والحنة .. وتحت ظلال الزيتون .. والبرتقال .. والنخيل .. و (الكرموس)

ماذا يفعل هذا السيد المهذب بذكرياته وحبه وماضيه إذ هجر البيت والقرية والوطن؟!

لكن هذا العزيز، الذي أحبه حتى الأعداء .. ما زال هنا ..

رأيته بنفسي على شاشة التلفزيون الملونة ..

ملامحه السمراء .. ابتسامته البرئية ..

ملابسة المزّينة بالدم والتراب والطين التي غسلتها أملاح السبخة والبحر .. ورصاص الغدر .. وأعشاب المدينة الطيبة ..

لقد كان ذلك اليوم من أخلد أيام التاريخ ..

فقد عاد المهاجر إلى نفسه .. إلى حدود بلا جواز .. ومدينة مفتوحة للنصر والمحبة

___________

المصدر: مجلة الانقاذ / العدد 22 / شوال 1407هـيونية 1987م/ ص 45.

مقالات

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *