محمود المنياوي

إن الاختلاف سمة وسنة الله في الكون، وقديما قُسمت الدول تبعا لتصنيفات عدة كان من بينها تقسيم الدول على أساس هوية من يقطن الإقليم.

الجزء الأول

في عالم الدولة “الحديثة” لا توجد دولة على هذه الشاكلة بل إن تميّز الدول ينبع من تجانس الإختلاف بها، وقدرتها على أن تحوّل هذا الإختلاف إلى وقود ومحرك للتنمية والتقدم، وعلى النقيض نجد أن الدول التي تفشل في إدارة الإختلاف والتمايز داخل المجتمع تصبح دولا “فاشلة” تمزّقها الأزمات السياسية والحروب الداخلية.

فالهوية الوطنية ذات أهمية حيوية للكيفية التي من خلالها ينتظم العمل السياسي والإجتماعي، لذلك فهي تؤثر على القضايا الرئيسة التي تهم السياسات الرسمية، خاصة فيما يتعلق بالإندماج الإجتماعي أو العزل الإجتماعي وهي تهم محتوى الهوية، لذا فإن الإجراءات الأساسية لبناء الهوية الوطنية تتمثل في دعم الهوية الوطنية المحددة.

وتنطوي كذلك على معان ودلالات رمزية وثقافية وجماعية تعطي الفرد إحساسا بالإنتماء إلى الجسم الأكبر، وتخلق لديه الإعتزاز بهذا الجسم الكبير، وهذه وظيفة مهمة للهوية الوطنية بالإضافة إلى فعالية الدولة التي تحتضن الهوية، وتوفرها للدفاع عن أرضها ومجتمعها أو في تنميتها الشاملة، وإشباع الحاجات الأساسية لمواطنيها، وإقرار مبدأ العدالة للمواطن، وهذا المفهوم يشير إلى وجود بعد ذاتي وبعد جمعي للهوية، وبعد آخر مرتبط بالدولة والسكان على حد سواء.

فالهوية الوطنية هي نتاج اجتماعي ثقافي تاريخي عام وتمثل علاقة متكاملة، وتغطي مدى واسعا للتصنيف والتنظير، وتعطي المواطنين شعورا بأنهم مرتبطون ببعضهم برابط محدد وتتجاوز أحيانا كل الولاءات الطبقية والتحتية.

لذلك فإن دراسة الأفكار المتعلقة بالهوية الوطنية والوطن تحتاج إلى أن تأخذ بالحسبان المعطيات والافتراضات الطبيعية بحيث تكون نظرتنا للعالم أكثر شمولا، ذلك أنه في أغلب الأحيان يدور التساؤل حول لماذا تحمل الأفكار والمعطيات المتعلقة بالوطن والهوية الوطنية تلك الاتجاهات المعروفة عند أغلب المواطنين.

ولفهم الهوية الوطنية علينا طرح العديد من التساؤلات، من قبيل، لماذا يعتبر الدفاع عن الوطن والهوية الوطنية أمراً واجبا وطبيعيا؟

ولماذا يعتبر الافتخار بالهوية الوطنية والإنتماء إليها والتغني بها أمر مهم؟.

وبقدر أهمية هذه التساؤلات، وبقدر أن الإجابة عليها أمر مهم أيضا، لإنها تتعلق بالوعي وبالاعتقاد الراسخ في العقل البشري سواء كان واعيا أو غير واع، قد تبدو الإجابة مرتكزة على مدى الاعتقاد بوجود الكيان السياسي الذي نطلق عليه إسم الوطن والاعتقاد بوجوده والذي يجمع كافة الأفراد الذين يعيشون به ويؤدي إلى تدعيم الشعور بالإنتماء إلى فكرة الكيان السياسي والإجتماعي والجغرافي للوطن، وبالتالي يحرك المشاعر والعواطف والأحاسيس نحوه، ويجعل من الفرد قادرا على تحريك مكانته الشخصية وهويته.

ليبيا وأزمة الهوية:

في المراحل الانتقالية تكون الدوافع أقوى لبروز الهويات الفرعية وتصدّع المجتمع، حيث تكون الإنقسامات الأولية، في الغالب، حاكمة للتفاعلات السياسية.

ففي سوريا مثلا، أدت الحرب الأهلية الدائرة إلى انقسامات جوهرية داخل المجتمع على الأساس الطائفي وستزيد من حدتها الشكل الذي سنتنهي عليه الأزمة في سوريا سواء إسقاط أو إستمرار النظام، وما ستخلفه هذه الأزمة من تداعيات كبيرة على مستقبل النظام السياسي.

وفي الأزمة اليمنية الراهنة، فإن جزء كبير منها هو بسبب سيطرة الإنقسامات الجهوية على الصراع السياسي بالبلاد، إضافة إلى المشكلات التي لا يزال يعاني منها العراق والوضع اللبناني المعقد.

كذلك فإن الثورة في ليبيا قامت لاسقاط نظام كان أحد أهم أعمدة ارتكاز حكمه الدعم القبلي، وظل طويلا لا يعتمد على المؤسسات والأحزاب أو الممارسات السياسية والديمقراطية المعروفة، بل اعتمد على دعم قبلي وعزّز عوامل الانقسامات في المجتمع الليبي.

وأحد أهم الأولويات التي يجب مراعاتها عند بناء الدولة الليبية ما بعد القذافي هي التركيز على مفاهيم الوطنية والمواطنة والإنتماء، فالتعديلات القانونية ضرورية لحماية حقوق الأقليات في المجتمعات العربية ولا سيما تلك الساعية إلى بناء دول ديمقراطية في إعقاب ثورات أطاحت برموز سياسية كانت عائقا أمام تقدم المجتمع اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا.

وسيكون على ليبيا على وجه خاص وبعكس بقية دول ثورات الربيع العربي، أن تعيد النظر في منظومة القيم والتوجهات والإتجاهات التي غرستها مؤسسات التنشئة الاجتماعية المختلفة طوال أربعين عاما من حكم القذافي والتي ساعدت على تغليب الولاءات القبلية على الهوية الوطنية.

وبدون الهوية لا يمكن بناء ديمقراطية فالهوية والمواطنة وجهان لعملة واحدة فلكي ينتمي فرد لمكان أو لوطن يجب أن يعي من هو بالأساس، والمواطنة هي أحد أهم القيم التي تبنى عليها الديمقراطية بما يحقق تماسك وتكامل واندماج الإقليم عضويا وترسيخ التعايش السلمي بين مواطنيه.

وبالرغم من صعوبة القياس الإمبريقي للإنتماء (التي هي أهم جزء بالهوية سواء فرعية أم وطنية) إلا أن المؤسسات الوسيطة بشكل خاص (كالمدرسة والمسجد والأسرة والمؤسسات الإجتماعية) تلعب في هذا المجال دورا رئيسا في زرع أو تغذية اتجاهات معينة من القيم لدى المواطنين وترسيخها سواء أكانت هذه القيم سياسية أم اجتماعية أم دينية وأخلاقية، وفي بناء منظومة القيم التي ترشد السلوك، وترسّخ القيم.

وغالبا ما يحصل نوع من الخلط والترادف بين الهوية الوطنية والهوية القومية، إلا أن الهوية القومية هي جزء من الهوية الوطنية، فـ “الهوية القومية” تتشكل من تداخل مجموعة القسمات الثقافية والحضارية الغالبة على أفراده، والتي تميّزه عن بقية شعوب العالم، وتتشكل هذه القسمات والمميزات عن عملية تاريخية نتيجة تفاعل عوامل اللغة والثقافة والتجربة التاريخية المشتركة، مع عوامل الجغرافيا والاقتصاد، تؤدي إلى صهر مجموعات بشرية معينة ضمن كيان قومي موحّد.

وكان التخلّص من نظام القذافي، كهدف رئيسي لثورة 17 فبراير في ليبيا موحدا لصفوف الثوار طوال شهور الثورة الليبية، بين مختلف الطوائف ولكن بمجرد إسقاط القذافي بدأ التوحّد حول الهدف والإعتزاز بالهوية الوطنية الواحدة يقل مقابل ظهور الهويات الأدنى.

وكانت ثورة السابع عشر من فبراير على نظام القذافي في ليبيا اختبارا وتحديا جديدا أمام شبكة الولاءات والإنتماءات التحتية في المجتمع الليبي، فبينما كان لدى الثوار ومعارضو القذافي الرغبة في إنهاء عقودا من الدكتاتورية وبناء الدولة الجديدة، كانت بعض دوافع معارضين آخرين للقذافي في إنهاء نظام القذافي دون وجود رؤية لما سيكون عليه الدولة المستقبلية ودون وجود توجهات حقيقية حول النظام الجديد إضافة إلى اشتراك منتمين لقبائل وجماعات على غير وفاق مع نظام القذافي.

وظهور التناقضات القبلية والجهوية، ومظاهر الصراع السياسي بمختلف أشكاله لم يكن طارئ أو مفاجئ، بل برز إلى السطح بعد حسم الصراع مع القذافي لتعكس واقع المجتمع الليبي بعد إسقاط النظام قمع كل أشكال التنوع القبلي والثقافي والأيديولوجي وحجزه خلف خطابه السياسي المهيمن، فنظام القذافي لم يكن بعيدا عما حدث من استقطاب قبلي بل لعب أثناء الثورة وطيلة فترة حكمه على هذا الوتر الحسّاس، فبني تحالفات قبلية ووطّد حكمه بالاعتماد على التصنيف القبائلي.

وبعد انهيار القذافي يبدو أن المشهد الليبي لا يزال غارقا في مخلفات نظامه، وفي الصراع المحتدم الآن على السلطة تحتل النزاعات القبلية مرتبة هامة فيه خاصة في غرب ليبيا ووسطها وجنوبها خاصة وسط انتشار السلاح والكتائب المسلحة غير المسيطر عليها من قبل أجهزة الدول أو مؤسساتها وهو ما قد يزيد من دور العامل القبلي، إذ أن كثير من هذه التنظيمات الحاملة للسلاح تنتمي غالبية أعضائها لقبيلة معينة قد تنخرط بشكل أو بآخر في مشكلات سياسية أو حتى عائلية تكون فيها هذه الكتائب سلاحا يصعب السيطرة عليه.

ففي معظم الصراعات السياسية والعسكرية في ليبيا يلعب العامل القبلي دورا أساسيا سواء في إشعال النزاع أو في حلّه، حيث إن شرعية الولاءات الفرعية والإنتماء للقبيلة تفوق ما عداها من شرعيات حتى شرعية القانون نفسه، نظرا لعودة المرجعية السياسية عشرات السنين إلى القبائل بل كانت “الدولة” تعتمد على القبائل لحل الأزمات وتفويضها بشكل غير مباشر للتعامل مع كثير من الأمور.

وهذا النفوذ القوي للقبائل في ليبيا يمثل امتيازً وتحديا في آن واحد حيث إنه يمكن أن يكون عاملا فعالا في إعادة بناء مؤسسات الدولة عبر خلق دوافع حقيقية لدى المؤسسة “القبلية” ورغبة في بناء دولة المؤسسات التي تظل فيها القبيلة حاميا للهوية الوطنية ومحافظا على الهوية الثقافية الفرعية.

إلا أنه من ناحية أخرى يمكن أن يمثل هذا الأمر تحديا خطيرا وعائقا أمام استكمال بناء دولة المؤسسات حيث من الممكن أن تعمل هذه المؤسسات التقليدية على إعاقة وجود دولة قوية إذا ما شعرت أن وجود الدولة القوية سينفي وجودها ولا يحتويها وسيقلّص ما لها من نفوذ أو من خلال الصراع الذي يمكن أن يتفجر بين قبائل مختلفة خلال الصراع على السلطة وأن تتحول القبلية لتهيمن على المشهد السياسي في ليبيا.

والتركيز على مفاهيم الهوية والمواطنة في ظل الأوضاع الحالية في ليبيا هو أمر جلل خاصة في ظل السعي إلى بناء مؤسسات الدولة وعلى الأخص المؤسسات السياسية والأمنية، والعمل على منع تكرار النموذج العراقي أو غيره من نماذج كـ (لبنان والسودان) في ليبيا، خاصة مع تعاظم عوامل تفكيك ليبيا حيث من الممكن أن يتخذ نمطا ومسارات قبلية مناطقية وإثنية، ففي الحالة السودانية اتخذ التفكيك مسارات طائفية وإثنية وفي العراق اتخذ مسارات إثنية.

وتعاني ليبيا من إختلاف الولاءات بين المناطق التي تتكون منها، مما يعطي دورا أقل للهوية الأم مقابل الهويات الفرعية، إضافة على العوامل والمميزات والإمكانيات الاقتصادية التي تتمتع بها ليبيا ما يُنشّط الدوافع الخارجية محاولة قدر الإمكان استمرار واستثمار حالة عدم الإستقرار في ليبيا ليس فقط من أجل موضع قدم لها في ليبيا بل من أجل إنتاج أوضاع تتسق مع مصالحها وأهدافها.

وينبغي على صانع القرار أن يعي أن القبلية قائمة في المجتمع الليبي منذ أمد طويل وبالرغم من المخاوف، وهي مشروعة، إلا أن الدور الاجتماعي والاقتصادي للقبيلة في ليبيا كان باستمرار دورا إيجابيا، بل وإنه يمكن الجزم أيضا بأن دور القبيلة السياسي في (فترة الاستعمار الإيطالي كمثال) كان هاما وإيجابيا، إلا أن هذه الأدوار تظل أدوارا مفصلية في فترات ما قبل الدولة.

ومع بناء الدول الحديثة يجب إدماج كل الولاءات الفرعية تحت لواء الدولة والاستفادة من إيجابيات هذه الولاءات الفرعية في دعم التطور المؤسسي للدولة وليس العكس، وبناء دولة المؤسسات كما يفترض إنهاء الدكتاتورية وأشكال حكم الفرد، يفترض كذلك دورا سياسيا أقل لمؤسسات ما دون الدولة (القبيلة) سواء بشكله المباشر أو غير المباشر، لكي يفسح المجال أمام قيام المؤسسات السياسية ممثلة في التنظيمات التي تباشر دورها في طرح وتبني مطالب المجتمع، غير أن هذا الأمر لم يتم بشكل كامل في ليبيا إلى الآن.

فبعد أن حصلت البلاد على الاستقلال وبعد أن تم حل أو منع القوى والأحزاب السياسية من العمل الرسمي المعترف به في إطار الدولة، كما كان سائدا في عهد الإدارة الأجنبية على البلاد، فإن استمرار حالة الفراغ السياسي حتى بعد انقلاب القذافي في 1969، وتجريم العمل الحزبي والسياسي، دفعت باتجاه تسريع وتأكيد المسألة القبلية في العمل السياسي خاصة في ظل الشعور بعدم الإستقرار والطمأنينة وتقلّص الأمن إلى أدنى مستوياته لدى كل من “النظام” والمجتمع على حد سواء.

البقية في الجزء الثاني بدأ من (مفهوم الهوية والإنتماءات التحتية في ليبيا).

____________

المصدر: مؤسسة فكر أونلاين

مقالات

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *