د.معتز الفجيري تظل التفاعلات السياسية واﻻجتماعية في إطار هياكل علاقات القوة المتغيرة هي العوامل الرئيسية التي يتم من خلالها إنتاج وإعادة إنتاج خطابات حقوق الإنسان، والخطابات الدينية في المجتمع، ونموذج علاقات الدين بالدولة، وأدوار الدين في المجال العام. هذه العوامل هي التي تحدد التفسيرات والفلسفات الدينية التي ستسود أو تهمش في المجتمع. وإضفاء أي حتمية على مصير العلاقة بين اﻹسلام وحقوق الإنسان يجافي تجارب الواقع في البلدان الإسلامية والتي تؤشر على تنوع في الممارسات والمصائر. تجربة التحديث في بداية ومنتصف القرن العشرين لها أيضاً تداعياتها على تطور الخطابات الدينية في البلدان الإسلامية وعلى خبرات الحركات اﻹسلامية فيها. فالتحديث في دولة مثل تركيا اتجه إلى فصل الدين عن الدستور والتشريع وتحجيمه في الحياة السياسية، وفي تونس اتجهت ظروف التحديث إلى إقرار إصلاحات نوعية في مجال حقوق المرأة، وتقوية الاتجاهات العلمانية والليبرالية في المجتمع، لكن سارت تجربة التحديث في مصر خلال القرن العشرين في اتجاه تزايد تدريجي لدور الدين في الحياة الدستورية والتشريعية، وتصاعد في نفوذ حركات اﻹسلام السياسي، وقد زادت هذه التوجهات في أعقاب انهيار النموذج القومي الناصري في نهاية الستينيات من القرن الماضي. ومن ضمن المتغيرات السياسية التي تؤثر في طبيعة العلاقة بين اﻹسلام وحقوق اﻹنسان في المجتمعات اﻹسلامية هي مدى التنوع والتوازن في القوى في المجتمع المدني والسياسي، ومدى نفوذ تيارات اﻹسلام السياسي، ومدى التطور الفكري أيديولوجيا لدى هذه التيارات. ومن هذه المتغيرات أيضاً الدور التاريخي للمؤسسات الدينية الرسمية، ومدى نفوذها في الحياة السياسية والقانونية والتعليمية، وتوجهات قياداتها، وعلاقات القوى بداخلها، من ناحية أخرى يكون للمؤسسات القضائية دوراً هاماً في وضع منهج لتأويل الشريعة اﻹسلامية، وفي تعريف العلاقات بين الدين والدولة. ويعد تطور قانون اﻷحوال الشخصية في كلاً من مصر وتونس والمغرب أحد أبرز اﻷمثلة التي توضح تأثير هذه المتغيرات على تطور العلاقة بين الشريعة وحقوق اﻹنسان. يضم قانون اﻷحوال الشخصية المصري الصادر في النصف اﻷول من القرن العشرين، صوراً متعددة للتمييز ضد المرأة في إطار الزواج والطلاق، وقد كانت هناك محاولات لتعديل هذا القانون بغرض توسيع حقوق المرأة، لكن لم يكتب لها النجاح. ثم صدرت تعديلات نوعية على هذا القانون عام 1979 بدعم من رئاسة الجمهورية، لكن لم تصمد هذه التعديلات، التي لم تكن تحظى بدعم مجتمعي وسياسي، وسط معارضة شديدة من جانب بعض قيادات وأعضاء المؤسسة الدينية الرسمية، وتيارات اﻹسلام السياسي. استطاعت الحكومة المصرية إدخال عدد من التعديلات المحدودة على هذا القانون عام 1984، وفي عام 2000 فقط تم إقرار قانون الخلع، الذي يجيز للمرأة تطليق نفسها دون موافقة الزوج في إطار عدد من الضوابط والشروط. وقد حظي قانون الخلع وقتها بدعم من السلطة التنفيذية، واﻷزهر، والمحكمة الدستورية العليا، اﻷمر الذي ضمن إصداره واستمرار تنفيذه بالرغم من اعتراضات تيارات اﻹسلام السياسي. في تونس كان الحبيب بورقيبه أول رئيس لتونس بعد استقلالها عن فرنسا، وقد تمتع بشعبية ونفوذ سياسي كبير، وكان داعماً للمساواة بين الرجل والمرأة، اﻷمر الذي انعكس في قانون اﻷحوال الشخصية التونسي الصادر عام 1956، والذي بموجبه تم منع وتجريم تعدد الزوجات، كما وسع القانون من حقوق المرأة في الزواج والطلاق. ورغم معارضة بعض اﻹسلامين لهذا القانون إلا أن اتفاق عام بين مؤسسات المجتمع المدني، والقوى السياسية في تونس ضمن حماية هذا القانون. أما المغرب فقد تمكنت من إصدار مدونة اﻷسرة عام 2004 والتي قيدت تعدد الزوجات، وجعلته مرهوناً بموافقة المحكمة، وقيدت حق الرجل في الطلاق المنفرد لزوجته، ومنحت حقوقاً نوعية للزوجة. وقد حظيت هذه المدونة بدعم من الحركة النسوية والحقوقية في المغرب، وعارضتها جماعات اﻹسلام السياسي، لكن تبني ورعاية المؤسسة الملكية، بما لها من وزن سياسي وديني في البلاد، لهذه المدونة، كان من العوامل الحاسمة ﻹقرارها. تعد المواقف المتباينة للأحزاب اﻹسلامية من حقوق الإنسان مثالاً أخر على تأثير السياقات السياسية واﻻجتماعية على فهم وممارسة حقوق الإنسان، إذ لا يميز الكثيرون بين الإسلام والإسلام السياسي. الأمر الذي يؤدي إلى الاعتقاد بأن الإسلام بطبعه يؤسس لفكرة الإسلام السياسي، ويدعوا لتأسيس ما يعرف بالدولة الإسلامية. هذا الخلط يتناقض مع تاريخ الإسلام والمسلمين، ومع الواقع الفكري في العالم الإسلامي منذ القرن الثامن عشر. أنصار الإسلام السياسي ينتقدوا توصيف الإسلام بالسياسي لأنهم يعتقدون أن السياسة ركن رئيسي في الإسلام باعتباره دين شامل ينظم جميع أوجه الحياة. الإسلام مثله مثل أي دين يشتمل على تقاليد فكرية متنوعة ويتحمل تاريخه تأويلات متعددة. قد تكون من ضمنها أفكار الإسلام السياسي، لكنها لا تمثله حصريا، فجميع المسلمين في العالم ليسوا بالضرورة مؤمنين بمقولة أن الإسلام دين ودولة أو أن الشريعة الإسلامية لابد وأن تكون القانون الحاكم للدولة الإسلامية الحديثة. وعلى الرغم من أن هناك قواسم عامة مشتركة بين جميع تيارات اﻹسلام السياسي، وفي مقدمتها بناء نظام حكم إسلامي يقوم على تطبيق الشريعة اﻹسلامية، إلا أن هناك اختلافات فقهية وتكتيكية بين هذه التيارات. فتجربة اﻹخوان المسلمين في مصر، وحركة النهضة في تونس خلال العقد اﻷخير يقدما دليلاً عملياً على هذه الاختلاف. ففي مصر تبنت جماعة اﻹخوان المسلمين أجندة محافظة تجاه حقوق المرأة، وحرية العقيدة، وحرية الرأي والتعبير، والتعددية السياسية، كما توافقت مع التيارات السلفية على تقوية بنود الشريعة اﻹسلامية، في أول دستور بعد انتفاضة يناير 2011. أما في تونس أبدت قيادات حركة النهضة تسامحاً أكبر تجاه حقوق المرأة، واكتفت بالنص في الدستور على أن الإسلام دين اﻷغلبية، دون النص على تطبيق الشريعة اﻹسلامية. هذه المواقف التي تبنتها حركة النهضة تعود إلى التكوين الفكري والأيديولوجي اﻷكثر ليبرالية لمؤسس الحركة الشيخ راشد الغنوشي، وإلى سابقة التوصل إلى تفاهمات تاريخية بين حركة النهضة وباقي الفصائل السياسية في تونس في اﻷعوام اﻷخيرة من نظام الرئيس السابق زين العابدين بن علي، وأيضاً إلى وجود توازن في القوى بين التيارات اﻹسلامية وغيرها من التيارات السياسية في تونس، اﻷمر الذي لم يتوافر في مصر خلال السنوات التي أعقبت رحيل الرئيس مبارك عن الحكم. السياق اﻹقليمي أيضا له تأثيره، فقد كان للخطاب الديني المحافظ في بلدان الخليج تأثيراً على دولة مثل مصر بشكل يفوق دولاً أخرى مثل تونس أو المغرب. وعلى الرغم من أن الزخم حول حقوق الإنسان قد اكتسب دفعة من المجتمع الدولي خلال عقدي الثمانينات والتسعينات، فإن ازدواجية المعايير في سياسات القوى الدولية تعطي فرصة للتوجهات المعادية لقيم حقوق الإنسان في العمل على إضعاف المنظومة العالمية لحقوق الإنسان. من ناحية أخرى ففي العقد اﻷخير استطاعت عدداً من القوى الدولية مثل روسيا والصين تشكيل تحالفات عابره للقارات، تضم معظم دول منظمة التعاون اﻹسلامي في الأمم المتحدة، إما للدفع بفكرة الخصوصية الثقافية في مواجهة عالمية حقوق الإنسان (القيم التقليدية) أو لعرقلة تطور معايير حقوق الإنسان في بعض المجالات مثل حقوق المثليين. __________________ Previous postأهم الإشكاليات الجوهرية العالقة في مشروع الدستور الليبي Next postقصة غلاف: الشهداء أكرم منا جميعا مقالات المذكرة الخاصة لمصطفى الخروبي لسنة 1976 (1) August 21, 2021 قراءة في الأهداف والاستراتيجية والتكتيك April 12, 2021 العقيدة العسكرية.. كيف تتم صياغتها؟ April 4, 2024 نبذة عن نشاة الجيش الليبي (1\2) May 13, 2024