كيف تخرج الدُّول من الحروب الأهليَّة؟
ثلاثة تجارب تشرح لك
من اللافت للنظر أنّ ضحايا الحروب الأهلية في أغلب الحالات يكونون أكثر بكثير من ضحايا الحروب العادية بين الدُّول، وليس غريبًا أن يكونَ أكبر ضحايا لحربٍ بعد الحرب العالمية الثانية هم ضحايا الحرب الأهلية السودانية التي استمرت لأكثر من عشرين سنة. سبق لساسة بوست أن شرحت كيف تبدأ الأطراف المتصارعة حربًا أهلية في هذا التقرير.
الحرب الأهلية الإسبانية: أن تنتهي المعاناة بديكتاتورية
«في وادي الذئاب ينابيع تتدفق هي دماء إسبان ماتوا من أجل الوطن وجموع محتشدة تذرف دموعا وهي تشاهد أبناءها يذهبون إلى الحرب.» مقطوعة غنائية إسبانية
بدأت الحرب بظهور صراع حول الحكم الملكي في إسبانيا بين مؤيد لبقاء الملك وبين مطالب بإعلان الجمهورية، مما أدى إلى عقد انتخابات نتج عنها إلغاء الملكية وإعلان الجمهورية عام 1931.
قد يبدو الأمر مستقرًا وهادئًا إذ تحقق للشعب أمله في تقرير مصيره بالديموقراطية التي اختارت الجمهوريين، لكنّ الأمر لم يكن بهذه السهولة فقد انقلب الجنرال فرانشيكسو فرانكو على الجمهوريين عام 1936 وبدأت الحرب الأهلية التي تصارعت فيها قوى داخلية كما شاركت فيها قوى خارجية؛ فقد اعتمد الجمهوريون الحُمر على دعم الاتحاد السوفيتي كونهم شيوعيين، بينما اعتمد فرانكو وحلفاؤه على الدعم النازي والفاشيستي.
من هم أطراف الحرب؟
الطرف الأول الراغب في الحفاظ على السلطة وهم الجمهوريون مع تحالف الاشتراكيين والشيوعيين والأناركيين بدعم من الاتحاد السوفيتي، وقداشتملت قائمة الكتاب الذين شاركوا إلى جانب الجمهوريين الروائي الأمريكي إرنست همنجواي والمؤلف البريطاني جورج أورويل والكاتب الفرنسي أندريه مالرو.
الطرف الثاني وهم الناقمون على الحكم، القوميون أو المتمردون بقيادة فرانكو الذي استطاع أن يجذب أكثر من 50 ألف جندي مغربي تحت شعار محاربة أعداء الدين والملاحدة الشيوعيين. وقد حصل فرانكو على دعم كل من إيطاليا الفاشية بقيادة موسوليني وألمانيا النازية بقيادة هتلر. فقد تم نقل جيش فرانكو كاملًا من المغرب إلى إسبانيا عبر طائرات إيطالية ألمانية لتعد هذه أول عملية نقل جوي لجيش في التاريخ.
نتائج الحرب
استمرت الحرب ثلاث سنوات تم خلالها تدمير الكثير من المدن الإسبانية على رأسها مدريد وبرشلونة، إلى جانب مقتل ما يزيد عن نصف مليون مواطن إسباني فضلًا عن تهجير الآلاف من السكان.
وكيف انتهت الحرب؟
انتهت الحرب بانتصار القومييين وسيطرة جيش فرانكو على الأراضي الإسبانية وإعلانه رئيسًا لإسبانيا
وسرعان ما اعترفت به إيطاليا وألمانيا الداعمتين الرئيسيتين له. تولى فرانكو الحكم لتنتقل إسبانيا من حكم الجمهوريين إلى حكم أكثر استبدادًا على يد فرانكو الذي تقول عنه بعض الإحصائيات أنه وصل عدد المفقودين في عهده ما يزيد عن 130 ألف وأكثر من 2500 قبر جماعي موثَّق و30 ألف طفل مسروق، وبسببه احتلت إسبانيا المرتبة الثانية عالميًّا بعد كمبوديا في عدد القبور الجماعية. وظلت جريمة قتله للشاعر لوركا تطارده حتى وفاته فقد كان نظامه عدوًا للفن والثقافة.
انتهت الحرب الأهلية إذن بديكتاتورية من أبرز وأطول ديكتاتوريات أوروبا (أعاد إسبانيا ملكيَّة ولكنها ظلت بلا ملك وأصبح هو القائد والزعيم لكن ليس الملك!)، فقد حكم فرانكو 36 عامًا ولقَّب نفسه بالـ » كوديلو« أي زعيم إسبانيا، لكنه استطاع أن يحافظ على إسبانيا بعيدًا عن صديقيه هتلر وموسوليني فقد شارك مشاركة طفيفة معهما في الحرب العالمية الثانية بأن بعث متطوعين إسبان للحرب مع قوات هتلر ولكن في مواجهة الاتحاد السوفيتي مع التعهُّد من قِبَل النازي بعدم مشاركتهم في أية معارك في مواجهة المعسكر الأوروبي والأمريكي، وأعلن في فترةٍ ما حياد إسبانيا من الحرب وبهذا لم يسقُط مع صديقيه وداعميه الرئيسيين.
لكنّ إسبانيا ظلت معزولة سياسيًا واقتصاديًا ولم تصبح عضوًا في الأمم المتحدة إلا عام 1955 خلال فترة الحرب الباردة. وفي الستينات بدأت إسبانيا تحقق نموًا اقتصاديًا عاليًا.
“الديكتاتور فرانكو”
سقط نظام فرانكو عام 1975 لتبدأ إسبانيا بعد ذلك انتقالها لعالم الديموقراطية، ولكن حتى في هذا العالم الديموقراطي الذي تعيشه لم يُتح للقاضي الإسباني الشهير «بلتسار غارثون» أن يُحقِّق في جرائم فرانكو بعد رفع دعاوى قضائية عليه من قبل اليمين المتطرف وحزب الكتائب الذي أسسه فرانكو. فقد تم تجميد كل الدعاوي القضائية التي تطالب بالتحقيق في هذه الجرائم بأمر من المحكمة الإسبانية العليا حين أصدرت حكمًا يقضي بشمل جرائم الاغتيال والتغييب القسري خلال الحرب الأهلية وطول مدة حكم فرانكو ضمن بنود قانون العفو الصادر عام 1977، خلال حقبة التحول الديموقراطي.
إذا كانت الحرب الأهلية الإسبانية انتهت بفرض فرانكو نفسه عليها بقوة السلاح بعد انتصاره علىى منافسيه وتأسيسه نظامًا ديكتاتوريًا، فكيف انتهت حربٌ أهلية في اليونان إذن؟
اليونان: ضحيَّة القوى الخارجية
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وهزيمة ألمانيا وإيطاليا على يد بريطانيا كانت الشرارة الأولى للحرب الأهلية هي الخلاف على تولي زمام الأمور بين سلطة تسعى لاسترداد مكانتها وسلطة تسعى لخلق مستقبلها. فقد نتج خلاف كبير بين الملك جورج الثاني الذي سافر إلى مصر بمجرد دخول الألمان إلى اليونان وشكَّل هناك حكومة المنفى التي اعترف بها دوليا (ودُعمت من بريطانيا وأمريكا) في محاولة لاسترداد حُكمهِ الذي زال بالاحتلال الألماني وعلى الجانب الآخر كان الشيوعيون الذي شكَّلوا الحزب الشيوعي وجناحه العسكري “جيش التحرير الوطني اليوناني” لمقاومة الاحتلال يسعون للسيطرة على الحكم بمساعدة روسيا وألبانيا ويوغوسلافيا.
بدأت حرب العصابات بين الفريقين، واستولى كل فريق على أراضٍ يونانية، وبرغم محاولات بريطانيا تشكيل ائتلاف وطني إلا أنها لم تحز قبولًا لدى الشيوعيين الذين رفضوا ترك السلاح. أجريت في عام 1946 انتخابات عامة قام الشيوعيون بمقاطعتها مما أدى إلى فوز الملك جورج الثاني الذي أدى بدوره إلى تمرد شيوعي جديد وبداية المرحلة الثانية من الحرب الأهلية التي حظي فيها كل فريق على دعم خارجي.
من هم أطراف الحرب؟
الشيوعيون وقد حصلوا على دعم كل من يوغوسلافيا وبلغاريا وألبانيا.
الملك جورج الثاني ودعم أمريكي بريطاني. ومن المسجل أن بريطانيا قد أرسلت 40000 مقاتل إلى اليونان بينما أقر الرئيس الأمريكي ترومان مساعدات بلغت 400 مليون دولار للحكومة المركزية في اليونان.
ومن هنا رأى البعض أن اليونان وقعت في شراك الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي وأمريكا. وبالجملة فقد كانت خسائر اليونان في الحرب الأهلية أكبر بكثير من خسائرها في الحرب العالمية الثانية. فقد قدرت الخسائر البشرية للحرب بأكثر من 3.5 مليون يوناني.
نتائج الحرب
تركت الحرب الأهلية في اليونان (1944 – 1949) جروحًا عميقة لاتزال آثارها في النفوس حتى اليوم، فقد أدت إلى هلاك ما يقارب 158 ألف يوناني إلى جانب أكثر من مليون يوناني تم تهجيرهم خارج أراضي اليونان.
كيف انتهت الحرب؟
كان تخوف أمريكا من سيطرة السوفيت على شرق أوروبا كبيرًا مما شجعها على دعم الجيش النظامي في مواجهة الشيوعيين، انتقلت الحرب خارج أثينا إلى الجنوب وفقد الشيوعيون دعم يوغسلافيا وبدأت انتصارات الجيش النظامي على القوات الشيوعية تتزايد بشكل أوضح، ففي عام 1948 خسر الشيوعيون معركتهم ضد الجيش النظامي وفقدوا أهم عناصر قوتهم وبات هذا انتصارًا واضحًا للجيش النظامي.
ومن هنا انهزم الشيوعيون بفضل المساعدات الأمريكية وفي عام 1947 توفي الملك جورج وخلفه أخوه بول الأول واستعادت اليونان جزر دوديكانس بعد إبرام معاهدة سلام مع إيطاليا، وساد في الخمسينيات استقرار سياسي ونمو اقتصادي وانضمت اليونان إلى حلف شمال الأطلسي 1952.
وكعادة الدول التي خرجت من الحرب الأهلية لم تستقر الديموقراطية في اليونان إلا بعد فترة طويلة نسبيًا بعد أن شهدت صراعًا كبيرًا بين الملك والجيش وحدثت ثورة عام 1967 وانقلاب عام 1973 وفي بداية الثمانينيات كانت أول حكومة اشتراكية يونانية قد بدأت تحكم البلاد، وكان التحول الديموقراطي قد بدأ ما جعل اليونان تنضم بسهولة للاتحاد الأوروبي.
هكذا انتهت حربٌ أهلية أخرى، وبعد مرور اليونان بفترة انتقالية طويلة وصلت للديموقراطية كما إسبانيا، فهل تحققت الديموقراطية في لبنان أيضًا بعد حربها الأهلية الطاحنة التي استمرت 15 عامًا؟
الحرب الأهلية اللبنانية: خمسة عشر عامًا من القتل والدمّ
منذ الحرب العالمية الأولى وسُقُوط الخلافة العثمانية شهدت المنطقة العربية توترات استمرت لسنوات طويلة وبقي أثرها إلى ما بعد الاستقلال، كذا هو الحال في لبنان الذي شهد أحد أعنف الحروب الأهلية على مستوى العالم.
فقد شهدت لبنان – لطبيعتها الديموغرافية – توترًا طائفيًا منذ انتهاء الخلافة العثمانية والانتداب الفرنسي بين المسلمين والمسيحيين نتجت عنه خلافات مسلحة مرورًا بأزمة 1958 التي هددت بحربٍ أهلية بين المسيحيين المارونيين والمسلمين إلى جانب توتر العلاقات بين مصر ولبنان نظرًا لرفض الرئيس اللبناني كميل شمعون قطع العلاقات مع الغرب بعد العدوان الثلاثي على مصر 1956.
كذلك تزايدت التوترات نتيجة انقسام لبنان إلى مسلمين مؤيدين للوحدة العربية بين مصر وسوريا وراغبين في الانضمام للوحدة وبين مسيحيين راغبين في الاتحاد مع الغرب، نشب عنه مناوشات مسلحة.
بدأت الحرب الأهلية بشكل فعلي في أبريل 1975 نتيجة محاولة اغتيال فاشلة قام بها مسلحون فلسطينيون للزعيم الماروني بيَّار الجميل، وكان الرد عليه من الجانب الماروني بقتل 27 فلسطينيًا في حادثة عين الرمانة.
من هم أطراف الحرب؟
بدأت الحرب بالتقسيمة التالية ولكنّ التحالفات تغيرت بفعل السنين الطولية للحرب:
الجبهة اللبنانية بزعامة كميل شمعون وبهيمنة المسيحيين الموارنة ودعم إسرائيلي وسوري.
الحركة الوطنية اللبنانية بقيادة كمال جنبلاط السياسي الدرزي المشهور.
منطمة التحرير الفلسطينة والتي انضمت لاحقًا للحركة الوطنية اللبنانية.
بدأت الحرب الأهلية كحرب شوارع، حيث بدأت بمراحل الخطف العشوائي والقصف العشوائي والقنص من فوق أسطح الأبنية، والقتل وفق الهوية وتصفية المعارضين الرافضين للحرب. تلت هذه المرحلة الانتقال إلى حرب الجبال في الجنوب التي طالت مخيمات اللاجئين الفلسطينين دون اعتبار لتوجههم الطائفي.
في عام 1978 غيرت سوريا تحالفها لتنضم إلى الجبهة الفلسطينية خاصة بعد دخول إسرائيل في صف الجبهة اللبنانية واجتياح جنوب لبنان، وفي عام 1982 اجتاحت القوات الإسرائيلية لبنان وحاصرت بيروت. لتقع مجزرة جديدة ويقتل ما لا يقل عن ألف مدني فلسطيني ولبناني في مخيمي صبرا وشاتيلا اللذين اقتحمتهما ميليشيات القوات اللبنانية المسيحية بتغطية من الجيش الإسرائيلي.
وفي محاولة لإنهاء الحرب في لبنان حاولت القوى الغربية إرسال قوات متعددة الجنسيات إلا أنها ما لبثت أن انسحبت جراء مقتل أفرادها على أيدي الانتحاريين.
نتيجة الحرب
من أخطر النتائج التي ترتبت على الحرب الأهلية هي التهجير والفرز الديني. وقد قدر عدد الضحايا بـ١٥٠ ألف قتيل و٣٠٠ ألف جريح، و١٧ ألف مفقود. وهجّر بسببها أكثر من مليون نسمة في بلد كان عدد سكانه ثلاثة ملايين، ونزح نحو 600 ألف شخص من 189 بلدة وقرية مسيحية وإسلامية، أي ما يعادل 21.8% من مجموع السكان.
كيف انتهت الحرب؟
بعد أن أنهكت الحرب كل الأطراف بدا على المشهد ميل للوصول إلى حلول تضمن إنهاء الحرب والخلاص من ويلاتها. ففي 1989 عقد في الدار البيضاء بالمغرب مؤتمر عربي غير عادي نتج عنه تشكيل لجنة ثلاثية (المغرب والسعودية والجزائر) دعت إلى عقد مؤتمر بمدينة الطائف السعودية لإعداد ومناقشة وثيقة الوفاق الوطني اللبناني.
وتم عقد المؤتمر بحضور 62 نائبًا لبنانيًا يمثلون القوات المتقاتلة وتم التوقيع على إنهاء الحرب الأهلية واختيار رينيه معوَّض رئيسًا للجمهورية، وما لبث أن تم اغتياله ليخلفه إلياس الهوراي وإقصاء ميشال عون وإعدام المئات من أنصاره الرافضين لترك السلاح وفي عام 1991 صدر قانون بالعفو عن كل الجرائم التي تمت منذ 1975.
كان رجل الأعمال اللبناني – السعودي الشهير رفيق الحريري كلمة السر التي استطاعت أن تقود لبنان ما بعد الحرب الأهلية اللبنانية، فقد أصبح رئيسًا للوزراء عام 1992 وبدأ في استغلال نفوذه الاقتصادي لإعادة إعمار لبنان ما بعد الحرب. بدأت شركته سوليدير بشراء أجزاء كبيرة من منطقة وسط بيروت وحولتها إلى منطقة سياحية فقد استقبلت لبنان 1.2 مليون سائح عام 2004 بزيادة قدرها 30 بالمائة عن العام الماضي.
“الحريري”
اغتيل الحريري عام 2005 واتُّهِمَت سوريا ثمّ حزب الله بتنفيذ التفجير الذي كان فيه اغتياله في وسط بيروت، وهنا انقسمت القوى السياسية إلى حلفين: تحالف 14 آذار ويقوده سعد الحريري (نجل رفيق) المقيم في السعودية، وتحالف 8 آذار المؤيد لسوريا ويقوده حزب الله، وبالجملة السُّلطة في لبنان مقسَّمه، إلا أن الجدير بالذكر أنها مقسمة بين أطراف داخلية تحركها (أو تدعمها في أحسن الحالات) أطراف خارجية، ويكفي أن نعلم أن أكبر كتلتين سياسيتين تدعمهما هما: السعودية وسوريا.
______________