ليست الغاية من استعراض التجربة أن نكتنز معلومات إضافية، وإنما العبرة أن نستفيد من تجربة بلد يتشابه مع عالمنا الإسلامي من حيث المساحة والسكان ووفرة الموارد، مع الابتلاء بالتدخل الاجنبي، وسيطرة العسكر وحكومات الاستبداد، لكنهم تخلصوا من سطوة الأستعمار وسيطرة الفاسدين، وحزموا أمرهم، وامتلكوا حرية اتخاذ القرار النافع لبلادهم دون مصادمة أو مناكفة، حتى نفضت البرازيل عن نفسها غبار التخلف، وطردت شبح الإفلاس.
الجزء الثالث
فتح افاق جديدة فى المجالات الاستثمارية والتجارية بين البلدين
كان قيام الرئيس مرسى والوفد المرافق له والذى ضم عدد من رجال الاعمال المصريين بزيارة مدينة ساوباولو البرازيلية، يؤكد على البعد الاقتصادى للزيارة، حيث أن هذه المدينة تعتبر مركز المال والأعمال ليس فى البرازيل فقط وإنما فى قارة امريكا الجنوبية كلها. وقد قام الرئيس والوفد المرافق بزيارة لمقر اتحاد الصناعات البرازيلية فى هذه المدينة، وهي مدينة يعيش فيها نحو 11 مليون برازيلى من أصل عربى، يعمل الكثير منهم فى مجال التجارة والصناعة وعالم الاعمال.
وفى اثناء زيارته لاتحاد الصناعات، دعا الرئيس مرسى أعضاء اتحاد الصناعات البرازيلى لزيارة مصر فى سبتمبر المقبل، وذلك فى إطار فتح آفاق جديدة أمامهم للاستثمار والتجارة المتبادلة فى السوق المصرية خاصة مع قرب دخول اتفاقية التجارة الحرة بين مصر وتجمع الميركوسور حيز التنفيذ قريبا.
ومن الجدير بالذكر الاشارة إلى أن هذا التجمع يضم بالإضافة إلى البرازيل كل من (الارجنتين، باراجواى، اورجواى، فنزويلا) وهو ما يعنى إمكانية توفير فرص استثمارية وتجارية أوسع امام مصر. ففنزويلا على سبيل المثال تحتل وفقا لتقرير منظمة الأوبك المرتبة الأولى عالميا فى مستوى الاحتياطيات النفطية، ولديها مشروعات استثمارية كبيرة فى الدول الحليفة لها فى الشرق الاوسط مثل ليبيا فى عهد القذافى وكذلك سوريا حتى الآن بالإضافة إلى إيران.
وهو الأمر الذى يعنى أن تكون البرازيل بوابة مصر إلى هذه المنطقة الهامة من العالم وبداية لتوسيع شبكة العلاقات التجارية والاقتصادية بين مصر ودول أمريكا الجنوبية. من جانب آخر وجه الرئيس مرسى دعوة صريحة لرجال الأعمال البرازيليين بالاستثمار فى مشروع محور قناة السويس. ولعل هذه الدعوة لم تكن الأولى ويبدو أنها لن تكون الأخيرة، فقد تكررت فى زيارات الرئيس لدول أخرى من العالم، ويبدو أن الرئاسة قد قررت القيام بدور دعائى لهذا المشروع، الذى ما زال يثير جدلا واسعا فى مصر حتى هذه اللحظة ويواجه بموجة كبيرة من الشك والخوف لإمكانية تأثيره بالسلب على السيادة المصرية على هذه المنطقة الإستراتيجية المهمة.
وتشير الأرقام الى أن قيمة الصادرات البرازيلية لمصر تقدر بنحو 2.6 مليار دولار أمريكي، بينما تبلغ قيمة الواردات البرازيلية من مصر 344.72 مليون دولار أمريكي (وفقا لتقديرات عام 2011). وهو ما يشير إلى ضعف التبادل التجارى بين الدولتين، وكذلك وجود خلل كبير فى الميزان التجارى لصالح البرازيل. وقد شهد البلدان عقد مجموعة من الاتفاقيات التجارية فى الثلاثة عقود الماضية، لكن الارقام توضح أن القضية لا ترتبط بعدد الاتفاقيات وإنما بمدى توافر إرادة سياسية حقيقية لتفعيل هذه الاتفاقيات ووجود رؤية لدعم هذا التبادل على المستوى الحكومى والخاص.
وتتوفر لمصر والبرازيل فرص عديدة لزيادة معدلات التجارة البينية فى مجالات السيارات والطائرات وقطع الغيار واللحوم والبن وغيرها من المنتجات البرازيلية، لكن المهم أيضا البحث عن فرص لتصدير منتجات مصرية منها الأنسجة وخاصة القطنية وبعض المنتجات الزراعية.
كما يجب ان تكون هناك جهات تعمل على اكتشاف مجالات جديدة يكون من شأنها فتح أفاق واسعة أمام المنتجين المصريين، وتدعيم العلاقات على أساس تحقيق مصالح كلا منهما
5. تنشيط قطاع السياحة
إن البرازيل بما تمتلكه من طاقات طبيعية نادرة ومذهلة من غابات وشواطئ وجبال مؤهلة وبقوة لاجتذاب أفواج سياحية كبيرة، لكن الواقع إن هذه القدرات وحدها غير كاف لهذا بل يجب أن يكون هناك جهود مبذولة لتنشيط السياحة، وقد شهدت البرازيل في الفترة السابقة نموا ملحوظا في هذا المجال، حيث ابتكرت نوع خاص من السياحة يعرف بسياحة المهرجانات، فالبرازيل دولة تمتلك تراث شعبي شديد الخصوصية في الاحتفال عن طريق المهرجانات الجماهيرية التي تشهد حالة من الاحتفال الجماعي في الشوارع برقصات السامبا والموسيقى والألوان والاستعراضات المبهرة، وقد نجحت في الترويج لمثل هذا اللون الخاص من السياحة ونجحت في استقبال 5 ملايين سائحا سنويا. وهو الأمر الذي يساهم كذلك في إنعاش الاقتصاد وتحقيق مزيدا من النمو.
6. الطرق المباشرة لحل مشكلة الفقر (الإعانات الاجتماعية)
بعد عرض كل الجوانب السابقة من برنامج “لولا” الإصلاحي الاقتصادي يبقى الإشارة إلى الجانب اليساري من خطة الإصلاح الاقتصادي وهو الشق المتعلق بالإعانات الاجتماعية ورفع مستويات الدخل. وقد كان في قلب هذا الجانب هو سياسة الإعانة البرازيلية المعروفة بـ (بولسا فاميليا)، وهو برنامج بدأ منذ منتصف التسعينيات أي في عهد “كاردوسو” قبل وصول “لولا” للحكم، ولكنه استمر في متابعة هذا البرنامج ويعود له الفضل في توسيع نطاق المنفعة من هذا المشروع وضخ طاقة اكبر وأموال أكثر فيه.
وقد كان إجمالي الإنفاق على البرنامج يصل إلى 0.5 % من إجمالي الناتج المحلى بتكلفة تقدر بين 6 و 9 مليار دولار . ويقوم البرنامج على أساس إعطاء معونات مالية للأسر الفقيرة بقصد رفع مستواها وتحسين معيشتها، على أساس أن تُعَرف الأسر الفقيرة بأنها الأسرة التي يقل دخلها عن 28 دولار شهريا.
برنامج التغذية المدرسية:
حيث ينتفع الأطفال بوجبة مجانية واحدة في اليوم بالمدارس العامة، ووجبتان بالمناطق الأشد فقرا والمهم هو ربط هذه المعونات بشروط صارمة تشمل التزام الأسرة بإرسال أطفالها للتعليم والالتزام بالحصول على الأمصال واللقاحات للأطفال بشكل منتظم. وبعد التأكد من التزام الأسرة بالشروط السابقة، تحصل الأسرة على دعم بمتوسط يبلغ تقريبا 87 دولار شهريا وهو ما يعادل 40% من الحد الأدنى للأجر في البلاد، وتصرف الإعانة عن كل طفل بحد أقصى ثلاثة أطفال، كما تصرف هذه الإعانات للام بهدف ضمان صرفها لتحسين ظروف الأطفال والأسرة.
وقد كانت انجازات هذا البرنامج باهرة خلال العقد الماضي، فقد وصل عدد المستفيدين إلى نحو 11 مليون أسرة، وهو ما يعنى 64 مليون شخص بما يعادل حوالي 33% من الشعب البرازيلي. ويمكن توضيح معنى استفادة الأسر الفقيرة من البرنامج على النحو التالي، انه لم يكن مشروعا سحريا للقضاء النهائي على الفقر ولكنه كان مشروعا واقعيا أدى إلى نتائج ملموسة، مثل التمكن من العيش بشكل أفضل والحصول على الطعام واقتناء بعض السلع المعمرة لأول مرة في حياتهم.
إذا برامج “لولا” لم تقضى على الفقر تماما ولكنها حركت ملايين الأسر من منطقة الفقر إلى منطقة “الطبقة الوسطى الجديدة“، حيث تقول مؤسسة سيتيليم المتخصصة في أبحاث المستهلكين انه قد صعد أكثر من 23 مليون شخص من الطبقتين (د) و (و) إلى الطبقة (ج)، وهى الطبقة التي يتراوح دخلها من 457 إلى 753 دولارا شهريا .
وبشكل عام فقد ساعد برنامج (بولس فاميليا) في خفض مؤشر جينى بنسبة 21%، في حين أدت عمليات رفع الحد الأدنى من الأجور إلى خفض المؤشر بنسبة 32%. و يقول البنك الدولي أن دخل أفقر 10% من السكان يزيد بنسبة 9% سنويا في حين يزيد دخل الطبقات الأغنى بنسبة تتراوح بين 2-4% سنويا، وهذا يعنى تقليل الفجوة بين الطبقات بصورة تدريجية.
إذا فقد توصل “لولا” اليساري إلى العدالة الاجتماعية عن طريق رفع الحد الأدنى للأجور وإعطاء الإعانات للأسر الفقيرة، وليس عن طريق تبنى سياسات التأميم، بمعنى انه ترك قمة المجتمع وعمل على تحسين قاعدة المجتمع. ومن الجدير بالذكر الإشارة إلى انه على الرغم من المساعي الحثيثة لمقاومة الفقر، إلا أن الفقر ما زال موجودا والتفاوت الاجتماعي مازال كبيرا. لكن المهم انه اقل مما كان وبنسب ومعدلات كبيرة وهذا يشير إلى أن الاستمرار على هذا المنوال سيعنى مزيدا من النجاح في إتمام الهدف.
وقد قال الرئيس لولا في احد اللقاءات التليفزيونية ردا على سؤال عن استمرار الفوارق الاقتصادية الكبيرة بين فئات المجتمع البرازيلي، قال: (انه لا يمكن حل مشكلات 500 سنة في 8 أعوام فقط…. لقد بدأت عملية العدالة الاجتماعية وعليها أن تستمر لتؤتى ثمار اكبر… وأنا أرى ان المهم في التقدم الاقتصادي ليس التقدم على مستوى الناتج المحلى الاجمالى فقط ولكن الأهم هو الانجاز في مجال السياسات الاجتماعية أو العدالة الاجتماعية….لقد زاد دخل السكان السود في عهدي بنسبة 220%…. والفقراء أصبحوا يتسوقون من المراكز التجارية. وهو ما لم يكن متاحا لهم من قبل)
7-برنامج خطة تسريع النمو :
فى 2007 قامت الدولة بإطلاقه والهدف منه هو تنمية الأقاليم المهمشة، والتى يعانى سكانها من الفقر والجوع. واشتملت الخطة على إقامة مشروعات بنية تحتية من بناء الطرق وتوفير الكهرباء وإقامة خزانات المياه وإنشاء شبكات الصرف الصحى، وقد تمثلت أهمية المشروع فى أمرين أولهما تحسين الظروف المعيشية لمواطني تلك الأقاليم الفقيرة، وثانيهما وهو الأهم توفير فرص عمل لسكان تلك المناطق، حيث اشترط المشروع توظيف اهالى المنطقة فى مشروعات تطويرها، مما يساهم بالتالي فى زيادة القدرة الشرائية لملايين الفقراء.
8. التوجه نحو التكتلات الاقتصادية
من جهة أخرى لم تكتفي البرازيل بالعمل على استخدام السياسات الاقتصادية الداخلية للنهوض بالاقتصاد البرازيلي، وإنما أيضا خطت خطوات متميزة على مستوى السياسات الاقتصادية الخارجية. من خلال منظمة (الميروكسور) وهى بمثابة السوق المشتركة لدول الجنوب وتشكلت باعتبارها اتفاقية للتجارة الإقليمية بين كل من البرازيل والأرجنتين وباراجواى واوروجواى في 1991 وعضوية غير كاملة لفنزويلا وبوليفيا. وهى تعد اليوم رابع اكبر قوة اقتصادية في العالم، وقد اهتمت سياسة “لولا” الاقتصادية على المستوى الخارجي بالقيام بدور قوى في التأثير على النظام الاقتصادي العالمي من خلال اجتماعات (الميركوسور).
ويرصد الباحثون الاقتصاديون تنامي ذلك الكيان الاقتصادي الجنوبي في الوقت الذي يتدهور فيه الاتحاد الأوروبي. وعلى جانب آخر شكلت البرازيل مع روسيا والصين والهند مجموعة في 2009 ثم انضمت لهم جنوب أفريقيا في 2010. ويعتبر تجمع لخمس دول تعد صاحبة اكبر اقتصاديات على مستوى الدول النامية، حيث يعادل الناتج الإجمالي المحلى لتلك الدول مجتمعة ناتج الولايات المتحدة.
وقد قام هذا الكيان على أساس أطروحة مفادها انه بحلول 2050 ستنافس اقتصاديات تلك الدول اقتصاد أغنى دول العالم. وهى على اى حال تشكل واحدة من اكبر الأسواق العالمية وأسرع الاقتصاديات نموا في العالم.
إن إتباع سياسات التقشف أدى إلى استعادة الثقة في الاقتصاد البرازيلي ومن ثم زيادة الاستثمارات والإنتاج كذلك أيضا تشجيع الصناعة والزراعة وتشجيع السياحة كل ذلك أدى إلى فرص عمل ومن ثم زيادة الدخل للبرازيليين، ومن جهة أخرى ساعدت برامج الإعانة الاجتماعية بشكل مباشر إلى رفع مستوى الدخل وتحسن المستوى المعيشي للطبقات الفقيرة مما أدى إلى خلق قاعدة عريضة للطلب، وخاصة أن البرازيل دولة كبيرة في عدد السكان كان اغلبهم يعانى من الفقر الشديد وهو ما يعنى عدم القدرة على الشراء.
ولكن مع تحسين دخلهم أصبحت هذه الطبقات تمثل قوة شرائية كبيرة ساعدت في ازدهار المشروعات الإنتاجية الوطنية ومثلت بديلا عن السوق الخارجي، وقد ظهر هذا بوضوح خلال فترة الأزمة العالمية في 2008، حيث كانت البرازيل اقل دول العالم تأثرا بالأزمة. فقد حققت البرازيل في هذا العام نموا وصل إلى 5.1% وذلك لاعتبار الاقتصاد البرازيلي اقتصادا مغلق نسبيا يعتمد على السوق المحلى بنسبة كبيرة.
خامسا: ترجمة النجاح الاقتصادي إلى مكاسب سياسية
من المهم الإشارة إلى انه مع وصول الرئيس السابق “لولا” إلى الحكم في 2003 لم يقتصر برنامجه الرئاسي على إصلاح الوضع الاقتصادي المتردي للبلاد فقط، بل أيضا كان له برنامج شديد الطموح فيما يخص السياسة الخارجية. وقد استخدم “لولا” ببراعة شديدة النجاحات الاقتصادية التي استطاع تحقيقها في فترة رئاسته الأولى للحصول على مكاسب في مسار السياسة الخارجية، ومن جهة أخرى وجه سياسته الخارجية النشيطة لتحقيق مكاسب اقتصادية جديدة وهكذا بالتوازي.
إذا فقد كان برنامجه للسياسة الخارجية يقوم على أساس القيام بعمل دبلوماسي نشيط ليس فقط على المستوى الإقليمي داخل قارة أمريكا الجنوبية ولكن على المستوى الدولي، ويقوم على أساس احترام البرازيل للسيادة الوطنية للدول والحفاظ على علاقات تتسم بالسلمية مع كافة دول العالم، بل وأيضا مع طرفي العداء، بمعنى أن البرازيل في عهده قد التزمت بعلاقات ودية جدا مع الولايات المتحدة وكذلك أيضا إيران على الرغم من الصراع الدائر بين الدولتين.
وقد شهدت فترة رئاسته تطورا ملحوظا في العلاقات البرازيلية الإيرانية، حيث استطاعت الدبلوماسية البرازيلية وفى قلبها شخصية الرئيس “لولا” أن تلعب هذا الدور ببراعة كبيرة والحفاظ على مسافات متساوية مع جميع الفرقاء، ولكن مع الاحتفاظ بدور فعال وليس مجرد التواجد على هامش المشهد الدولي. وقد تميزت سياسته بأمر غاية في الأهمية، ألا وهو معرفة حجم بلاده دون الوقوع في احد الخطأين وهما التهويل أو التقليل من الذات، وهو الأمر الذي يجعل قرارات السياسة الخارجية أكثر رشاده وتصب في مصلحة الداخل ولا تؤدى إلى دخول البلاد في مشكلات اقتصادية وسياسية لا قبل لها بها.
ففي حديث للرئيس لولا في 2010 قال: (عندما نجحت في الانتخابات الرئاسية وقبيل تسلمي السلطة بشكل فعلى… ذهبت إلى واشنطن في 10/9/2002 وقابلت الرئيس الامريكى بوش وقلت له أن قضيتي ليست العراق ولكن قضيتي هي محاربة الفقر لشعبي …) إذاملايين البرازيليين من الفقراء والجوعى فكيف لي أن اهتم بالعراق..) إذا فالرئيس “لولا” امتلك الحكمة التي جعلته لا يتورط في صراع مع الولايات المتحدة في بداية فترة حكمه، حيث انه تسلم دولة لديها جملة من المشكلات الاقتصادية وشعبا يعانى من الفقر والجوع.
ولكن وفى فترة رئاسته الثانية وبعد أن تجاوزت البرازيل كبوتها الاقتصادية أبدى انطلاقا اكبر على مستوى السياسة الخارجية والتدخل في قضايا قد كانت من قبل بعيدة عن اهتمام حكام البرازيل أو هو نفسه، مثل الملف النووي الإيراني، ففي نفس الحديث التليفزيوني السابق الذي تحدث فيه عن موقفه من العراق يكمل قائلا: (لقد كانت قصة العراق أكذوبة ولذلك لا أريد تكرارها مع إيران) وبالفعل قامت الدبلوماسية البرازيلية بدور محوري في الدفاع عن حق إيران لامتلاك تكنولوجيا نووية، كما واجهت بالرفض الشديد لأي محاولة أمريكية لضرب إيران عسكريا كما عارضت فرض عقوبات على الأخيرة.
إذا فيبدو أن الرؤية السياسية البرازيلية في عهده عبرت عن الارتباط الحكيم بين القوة الاقتصادية وبين اتخاذ مواقف فعالة في السياسة الخارجية. من جهة أخرى تقوم البرازيل من خلال (البريكس) بمحاولة تقديم نفسها باعتبارها دولة صاعدة تسعى إلى وضع دولي أفضل يتمثل في الحصول على مقعد دائم في مجلس الأمن. وفى واقع الأمر فإن “لولا” لم يعلن عن مطلبه هذا فور وصوله إلى الحكم ولكنه بدأ في الإعلان عنه عقب نحو 3 سنوات، ثم زادت نبرة المطالبة بالعضوية مع كل تقدم اقتصادي وهو الأمر الذي مازال مستمرا إلى اليوم في فترة رئاسة خليفته “روسيف” باعتباره مطلبا لم يتحقق بعد.
كذلك فإن البرازيل في السنوات القليلة الماضية أصبحت احد الدول المقرضة للبنك الدولي بعد أن كانت مدينه له، ومن ثم استخدمت ذلك الوضع للمطالبة بكوته تصويتية اكبر للدول النامية. في مشهد آخر وبعد تحقيق البرازيل لنموها الاقتصادي الكبير والذي تزامن مع التدهور الحاد الذي أصاب دول الاتحاد الأوروبي، نجد البرازيل تقوم بشراء السندات الحكومية البرتغالية في محاولة منها لمساعدتها، بل والأكثر فقد صرح “لولا” قبيل خروجه من الرئاسة بدعمه لفقراء أوروبا ورفضه فرض برامج التقشف عليهم.
وهو بهذه السياسات يسعى لكسب دعم دولي له في قضية الحصول على مقعد دائم في مجلس الأمن باعتباره قطب اقتصادي وسياسي دولي صاعد.
سادسا:القيادة السياسية وأثرها على الاستقرار السياسى
توصلت القوى الديمقراطية فى تجربة البرازيل إلى ضرورة تأسيس توافق مع المؤسسة العسكرية على انطلاق عملية التحول الديمقراطي ، عبر إصدار العفو على المعتقلين السياسيين و تنظيم انتخابات نزيهة ، حيث تمكنت من سن قوانين العفو عن المعارضة، و تم تغيير نظام الاقتراع من اجل تكريس التعددية الحزبية بدل الثنائية .
إن تجربة البرازيل في التحول الديمقراطي أشرفت عليها المؤسسة العسكرية و ضمنت انفتاح النظام السياسي و تنظيم الانتخابات. و احترام نتائج صناديق الاقتراع. إن مميزات التجربة البرازيلية تتجلى في العناصر التالية :
• نهج أسلوب يعتمد على دمقرطة النظام بتنظيم انتخابات.
• احترام المؤسسة العسكرية لنتائج الانتخابات .
• تمكن الحزب المعارض من الفوز في الانتخابات .
• إيمان المؤسسة العسكرية بضرورة التحول الديمقراطي. و نهجها المقاربة التشاركية رغم غياب تعاقد مكتوب. فقد سهلت الأحزاب السياسية عملية التحول خاصة حزب IDB . فى مرحلة التحول إلى نظام حاكم ديمقراطي ليبرالي بقيادة إدارة سارني:
1985 – 1989 , لعبت النقابة العمالية دوراً محورياً في إنهاء الحكم العسكري, فقد تبنت البرازيل في تسعينيات القرن العشرين نهجا إصلاحيا لتوجيه البلاد نحو الديمقراطية، و تبين التجربة البرازيلية أهمية الأحزاب السياسية في صياغة المشهد السياسي البرازيلي، خاصة الحركة الديمقراطية البرازيلية التي شكلت المعارضة الأساسية داخل البلاد و استطاعت أن تحظى بثقة المؤسسة العسكرية.
بادرت الحكومة العسكرية بتقديم بعض التنازلات بعد تحالف جزء من قادتها مع المعارضة لإجراء تعديلات هيكلية للنظام السياسي البرازيلي لتحقيق الانتقال الديمقراطي، حيث لم تتصرف الحكومة والمعارضة كأعداء وإنما كشركاء غير مباشرين. بدأ التفتح السياسي من الأعلى إلى الأسفل، حيث وافقت الحكومة على دمقرطة النظام بإقرار التعددية السياسية و تنظيم انتخابات حرة، كما لم تعمل المؤسسة العسكرية على تجميد أو حل البرلمان أو القضاء على النظام الانتخابي .
وفى المجال الاقتصادى الذى يعد عصب الاستقرار السياسى, وعنصرا هاما لتحقيقه, نجد أن القيادات البرازيلية المتلاحقة عمدت إلى تحقيق نمو وتقدم اقتصادى ملحوظ خاصة فى فترة تسعينيات القرن العشرين أما في هذه الفترة والتي كان الجيش قد تراجع تماما عن الحياة السياسية وأتم الانتقال السلمي والتدريجي للسلطة إلى حكومات مدنية متعاقبة، فقد انتهجت الحكومات المدنية في خلال عقد التسعينيات سياسات اقتصادية رأسمالية، حيث تبنت سياسات الانفتاح الاقتصادي وسياسات السوق وعمت البرازيل حمى الخصخصة والتحرير الاقتصادي كما كان الحال في العديد من دول العالم الثالث التي اتبعت توجيهات صندوق النقد والبنك الدوليين، وهو ما أدى إلى تقدم في مؤشرات الاقتصاد الكلى وهو ما لم يكن يعنى تقدما فعليا، بمعنى أن سياسات الانفتاح الاقتصادي أصابت المنتجين المحليين بخسائر فادحة مما أدى إلى مزيد من البطالة وتراجع حاد في الإنتاج المحلى ومن ثم تراجع معدلات التصدير وكذلك أيضا ارتفاع معدلات الفقر التي كانت مرتفعة بالأساس.
وعلى هذا فقد أثبتت تجربة التسعينيات في البرازيل والعديد من دول العالم الثالث أن استقرار الاقتصاد الكلى لا يعنى بالضرورة نموا حقيقيا في الاقتصاد والإنتاج ولا يعنى تقدما في مستوى دخل الأفراد وحل المشكلات الاقتصادية مثل البطالة ومستويات الفقر المرتفعة ومشكلات الدين العام والتضخم وغيرها, وهكذا حرصت القيادة السياسية البرازيلية على النهوض بالاقتصاد الأمر الذى جعل من البرازيل قوة اقتصادية وقطب دولى صاعد .
لولا دى سيلفا نموذجا لدور القيادة السياسية فى تحقيق الاستقرار السياسى, فأننا سوف نحاول تسليط الضوء على دور لولا دى سيلفا كنموذج, فهو يعتبر صانع النهضة البرازيلية نجد توفر الروئيا الواضحة و الارادة السياسية القوية و الصدق و الشفافية في التعامل مع اوضاع البلاد حقق مكاسب من الاستقرار للبلاد و استطاع ان يحظى بشعبية كبيرة.
سابعا: الدروس المستفادة من تجربة لولا الاقتصادية في البرازيل
1. ضرورة توفر الرؤية الواضحة، والإرادة السياسية القوية، والصدق والشفافية في التعامل مع الجماهير، حيث ترجمت الرؤية إلى برنامج عمل يتشكل من مجموعة من السياسات التي تؤدى إلى تحقيق الأهداف. بالإضافة إلى إرادة سياسية وعزيمة لتنفيذ ذلك البرنامج رغم أي صعوبات. وقد واجهت “لولا” صعوبات كبيرة في بداية فترته الأولى وكان أهمها ضرورة التزامه ببرنامج التقشف وتكمن صعوبة هذا الأمر في أن “لولا” اليساري قد تم اختياره من قبل الشعب البرازيلي لأسباب رئيسية تتعلق بحل مشاكل الفقراء ومقاومة الجوع وقد كان من المنطقي أن تؤدى سياسات التقشف إلى مزيد من معاناة الفقراء.
لكن الدرس الحقيقي المستفاد من هذا الموقف هو أن صدقه وإعلانه بكل شجاعة إلى شعبه انه لا مفر من الالتزام بهذا البرنامج للخروج من الأزمة الاقتصادية وتوجهه بشكل مباشر إلى الشعب ليطلب دعمه في تنفيذ برنامجه الاقتصادي هو ما كتب له النجاح. و تصرف الحكومة و المعارضة كشركاء غيرمباشرين وليس كاعداء و التزام العسكر بهدوء
2. إن ما تحقق من انجاز اقتصادي كبير على ارض الواقع في البرازيل، لم يكن ليتم في غياب ذلك المناخ الديمقراطي الراسخ. ومن المهم الإشارة إلى أن “لولا” لم يكن منوطا بتنفيذ الأمرين وهما التحول الديمقراطي والنمو الاقتصادي معا، ولكنه وصل إلى الحكم بعد نحو 17 عاما من بدأ عملية التحول الديمقراطي وبناء الدولة المدنية المؤسسية بعد فتر طويلة من الحكم العسكري القمعي في البلاد. واعتقد أن “لولا” لم يكن له أن يحقق هذا التقدم الاقتصادي في ظل غياب الديمقراطية أو حتى في أثناء سنوات التحول الديمقراطي الأولى.
فعلى الرغم من أن النجاح والتقدم الاقتصادي كان حليفه إلا انه لا يمكن إغفال وضع بذور الإصلاح في عهد سلفه “كاردوسو“، حتى أن برنامج (بولسا فاميليا) الشهير انطلق في عهد “كاردوسو” كذلك أيضا إنشاء منظمة (الميروكسور) الإقليمية
3. كما أن تحقيق النجاح واكتساب الشعبية العارمة لم تجعل “لولا” يستغل ذلك ويسعى لتغيير الدستور البرازيلي ليتمكن من إعادة ترشيحه مرة ثالثة كما فعل جاره “شافيز” في فنزويلا، على الرغم من التأكيد أن هذا الأمر كان بالفعل مطلبا برازيليا شعبيا حقيقيا. ولكن “لولا” أعلن انه يفضل أن تحافظ البرازيل على قواعد الديمقراطية ومكتسباتها، وألا يعيد إلى بلاده آليات نظام عانى هو وزملاءه في النضال من اجل التخلص منه و احترم الدستور ولم يعدله
4. الاهتمام باغلبية الشعب و عدم اهمال المتبقي و تحسين و اصلاح قاعدة المجتمع فتقدم التجربة البرازيلية تصورا عن حل المشكلات المتعلقة بالعدالة الاجتماعية والفقر يلخص في أن هذا الأمر لا ينبغي أن يتم بعيدا عن مراعاة حقوق الطبقات الغنية، ليس فقط باعتبارهم جزء من مواطني الدولة لهم كافة الحقوق وإنما أيضا من باب أن حماية حقوق المستثمرين ورجال الأعمال المحليين والأجانب يؤدى إلى انتعاش الأسواق وزيادة فرص العمل وهو ما يصب في النهاية لصالح النمو الاقتصادي بشكل عام وتحسين حالة الطبقات الفقيرة بشكل خاص.
ولكن مع التأكيد انه لا يمكن إغفال ضرورة وجود برامج للإعانة الاجتماعية إلى جانب قرارات مباشرة من الحكومة برفع الحد الأدنى للأجور، لضمان ألا يصب النمو الاقتصادي فقط في مصلحة الأغنياء ومن ثم يؤدى إلى توسيع الفجوة بين الأغنياء والفقراء كما حدث في معظم دول العالم منذ التسعينيات
5. في درس آخر يتعلق ببرامج الإعانات الاجتماعية، فقد قدم برنامج (بولسا فاميليا) تجربة تستحق الدراسة والتكرار، فهو لم يكن برنامج لإعطاء أقساط مالية لمساعدة الفقراء فقط،وإنما كان برنامجا مشروطا كما سبقت الإشارة، حيث أن المواطن لا يحصل على هذه الإعانة في حالة عدم التزامه بإرسال أولاده إلى المدارس أو عدم التزامه بإعطائهم الأمصال الوقائية. إذا فقط كان هدف البرنامج هو مساعدة الأسر حتى تستطيع أن تترك الأطفال يتعلمون ولا يجبروهم على ترك الدراسة من اجل العمل، وهنا تكمن الاستفادة الحقيقية وهى تحويل مسار أبناء الفقراء حتى لا يكون الفقر والمرض وراثيا وطبقيا
6. الاهتمام بتطوير الإنتاج المحلى سواء الزراعي أو الصناعي وفى الوقت نفسه إتباع سياسات اقتصادية تكون من شأنها رفع القدرة الشرائية المحلية، لحماية الاقتصاد الوطني من أن يكون عرضة للازمات الاقتصادية العالمية والتي تعصف بالاقتصاد العالمي اليوم.
7. في درس آخر ربما يكون اقرب إلى السياسة الخارجية، يتعلق بضرورة الوقوف على حقيقة قوة الدولة اقتصاديا، بمعنى عدم الدخول في صراعات خارجية قد تكلف الدولة مزيدا من الأعباء في مرحلة النهوض، وقد سبقت الإشارة إلى أن “لولا” أعلن بمنتهى الوضوح انه لا يمكنه الاهتمام بما يحدث في العراق في 2003، لأنه ما زال في عامه الأول من الرئاسة وما زال أمامه عمل طويل في مكافحة الجوع.
إذاً فمن المهم جدا في البداية أن تصب كافة الجهود على حل مشكلات الداخل ثم في وقت لاحق تستخدم هذه النجاحات الاقتصادية لمزيد من النجاح في السياسة الخارجية، ولعل فنزويلا قدمت نموذجا على نقيض نموذج البرازيل، على الرغم من انتماء كل من الرئيسان “لولا” و“شافيز” إلى التيار اللاتيني اليساري بما يحمله من سخط على سياسة الولايات المتحدة في القارة الجنوبية، إلا أن “لولا” عرف قدراته وإمكانياته وسعى لتحسين أوضاع شعبه وهذا لم يمنعه في النهاية من اتخاذ مواقف مخالفة للمصالح الأمريكية مثل حملته الكبيرة لجمع اكبر تأييد لقضية الاعتراف بالدولة الفلسطينية أو حتى مساعيه الدبلوماسية الثنائية مع تركيا لإيجاد مخرج لإيران من أزمة ملفها النووي، ولكن كل هذا تم في إطار موضوعي وعملي.
أما “شافيز” فقد بذل كثير من الجهد والمال في شن حروب كلامية ودبلوماسية على الولايات المتحدة في الوقت الذي لم يقدم انجازا ملموسا على ارض الواقع ولم تحقق فنزويلا وهى خامس اكبر منتج للنفط في العالم أي تقدم اقتصادي ملحوظ.
8. أن التجربة البرازيلية لم تكن فقط تجربة “لولا دا سيلفا” أو سلفه “كاردوسو” أو خليفته “روسيف“، بل هي تجربة نجاح ما كان لها أن تحدث لو لم تتوفر إرادة شعبية حقيقية ووعى جماهيري لأهمية النهوض، و ثقة الشعب برئيسه و قائده ،و الخضوع لاوامره و مشاريعه ، فالشعب البرازيلي بطبقاته الفقيرة هو من تحمل أعباء سياسات التقشف حتى تعافى الاقتصاد البرازيلي وهو الذي ينتج ويصدر رغم وجود عصابات المخدرات
9-تدخل الحكومة بالنشاطات الرياضية والثقافية و الفنية و الاهتمام بها لكسب الشباب و تكون نظرة خارجية ايجابية عن البرازيل كما انه هو من استطاع تقديم عروض ناجحة وقوية وصادقة مكنت البرازيل من الحصول على تنظيم أهم حدثين رياضيين في العالم وهما بطولة كأس العالم في 2014 بعد منافسة قوية مع الولايات المتحدة والتي كان يتزعم حملة الترويج لها الرئيس اوباما بنفسه
10-الشفافية في ادارة الدولة من الواردات و الصادرات 11-فصل الدين و القومية والتمييز العنصري من الدولة و كل برازيلي متساوون في الحقوق و الواجبات
12-وجود قيادة سياسية وطنية هدفه نمو البرازيل و تطويره و النهوض من النكبات و عزمه القوي للنجاح و فهمه لمشاكل الدولة والشعب
13-عدم التقيد بنظام ثابت فقد كان اشتراكيا في العدالة الاجتماعية و ليبراليا في الاقتصاد و علمانيا في ادارة البلد .
_____________