ليست الغاية من استعراض التجربة أن نكتنز معلومات إضافية، وإنما العبرة أن نستفيد من تجربة بلد يتشابه مع عالمنا الإسلامي من حيث المساحة والسكان ووفرة الموارد، مع الابتلاء بالتدخل الاجنبي، وسيطرة العسكر وحكومات الاستبداد، لكنهم تخلصوا من سطوة الأستعمار وسيطرة الفاسدين، وحزموا أمرهم، وامتلكوا حرية اتخاذ القرار النافع لبلادهم دون مصادمة أو مناكفة، حتى نفضت البرازيل عن نفسها غبار التخلف، وطردت شبح الإفلاس.
تهدف الدراسة إلى الاقتراب من تجربة النهضة الاقتصادية البرازيلية في عهد الرئيس السابق “لولا دا سيلفا” (2003-2010) ومحاولة فهم سياساته الاقتصادية التي أدت إلى نقل البرازيل من هوة الإفلاس إلى قمة التقدم الاقتصادي في خلال ثماني سنوات فقط. وكيف استطاعت تلك السياسات التأثير في حياة ملايين البرازيليين ونقلهم من مصاف الطبقات الفقيرة إلى الطبقة الوسطى.
وتقوم الدراسة في إطار هذا الهدف أولا بعرض موجز لمراحل تطور الأوضاع الاقتصادية قبل وصول” لولا” إلى الحكم في محاولة لفهم من أين بدأ “لولا“، ثم ثانيا الوقوف على أهم المشكلات الاقتصادية التي واجهها وكان منوطا بحلها، يليها ثالثا الإشارة إلى أيديولوجية “لولا” اليسارية بين الواقع العملي وما كان متوقع منه قبل انتخابه، أما رابعا فتقدم الدراسة عرض وشرح لبرنامج “لولا” الاقتصادي، وفى القسم الخامس تطرح الدراسة تحليلا لكيفية استخدام هذا التقدم الاقتصادي في مجال السياسة الخارجية، وأخيرا في القسم السادس تقدم الدراسة مجموعة من الدروس المستفادة التي يمكن الاسترشاد بها في تلك المرحلة الانتقالية التي تمر بها العراق عقب ثورةالاصلاح و مجموعة من روؤساء فاسدين.
الجزء الأول
نبذة عن البرازيل
اِكْتُشفت البرازيل عام(1500م) بواسطة البحّار البرتغالي كابرال، وعندما تدفق عليها البرتغاليون أفنوا أهلها الأصليين ، وخطفوا الناس من أفريقيا واستعبدوهم للعمل، وخلال ثلاثة قرون خطف البرتغاليون ستة ملايين أفريقي؛ ويبلغ الرقم ثلاثة أضعاف هذا العدد في مصادر أخرى، وظل الأفارقة أرقاء حتى أُلغي الرق عام (1888م) وكانت البرازيل من نصيب الاستعمار البرتغالي حتى عام (1822م) في حين ظفرت أسبانيا بباقي بلدان القارة.
تبلغ مساحة البرازيل (8,547) مليون كم2 تمثل نصف مساحة أمريكا الجنوبية؛ وتحتل المرتبة الخامسة على مستوى العالم، ويناهز عدد سكانها مئتي مليون نسمة منهم (62%) دون سن (29)عاما، وغالب سكانها نصارى: كاثوليك (75%) وبروتستانت (15%)؛ وبالتالي فهي أكبر دولة كاثوليكية في العالم. وفيها ألف نهر، وأربعون ألف نوع من النبات، ولذا فهي رئة العالم، وثلث سلة غذائه، ويعمل بالزراعة ربع القوة العاملة، وهي غنية بالنفط والغاز والمعادن والغابات فضلاً عن الإيثانول المستخرج من قصب السكر. وقد أصبحت برازيليا عاصمة للدولة في 21 أبريل 1960، والأعراق فيها تتكون من الأوربيين، والهنود الأمريكان، والزنوج ثم بقية المهاجرين من الدول العربية والآسيوية.
ينتخب الرئيس مرة كل أربع سنوات، ويحق له تولي هذا المنصب مرتين فقط، وتنقسم السلطة التشريعية الفيدرالية إلى مجلسين؛ الأول الشيوخ ويضم (81) عضواً منتخباً لمدة ثماني سنوات، وهم يمثلون الولايات السبع والعشرين بالتساوي، والثاني مجلس النواب ويتكون من ( 513) عضواً ينتخبون شعبياً لمدة أربع سنوات، ولكل ولاية وزن خاص حسب عدد سكانها ودخلها الاقتصادي، ولكل ولاية مجالسها وبلدياتها الخاصة بها، وللدولة نظام قضائي واحد ومستقل يوصف بالنزاهة.
في عام 1999 اوشك البرازيل على الانهيار بسب الاضطرابات السياسية و الاقتصادية, حتى ان صندوق النقد الدولي رفض اعطائهم قرض بسبب مخاوفهم من عدم القدرة على التسديد , و بعد سنوات اصبح الصندوق مديننا لها و اكد وزير المالية ان في سنة 2011 حققت نموا بنسبة 2.7% و ايضا ازداد دخل نصف سكانها بنحو % 68 خلال العقد الماضي و اصبح نموذجا على اهمية التخطيط و التغيير في ادارة البلد في قيادة الدولة و تحديد المصير بجهود الرئيس لولا دا سيلفيا بتشريعه برنامج و تخطيط لمحاربة الفساد و الفقر بشكل منهجى وساعده المجتمع المدنى في تنفيذ خططه ومشاريعه .
بالرغم ان لولا ليس لديه مؤهلات علمية ولا يعرف لغات اجنبية و استند فقط على: الادارة الجبارة والحس الطبقي ورؤية شاملة للعلاقات و السياسات الخارجية , الا ان ذكاءه الاقتصادى و عدالته جعلته يوازن بين مصالح الطبقات و كلها عبر تطبيق سياسات يسارية لمعالجة الفقر و تحقيق العدالة الاجتماعية من جهة واخى ليبرالية تحمى صناعات و مشاريع الراسماليين و التجار و المستثمرين من جهة اخرى.
في عام رئاسه الاول طمأن الرئيس الشعب قائلا: من اليوم الى نهاية ولايتي لن يبقى هناك جائع برازيلي خلال برامج صفرالجوع و مساعدة الفلاح البرازيلي و اشراك المجتمع المدني في تصميمها و تنفيذها مع الاخذ بعين الاعتبار الحالة الاجتماعية. ولم تقتصر الغاية على التكامل الاقتصادى و رفع الناتج المحلي و العمل والتخطيط والتنفيذ في كل المجالات السياسة والاقتصادية والعدالة الاجتماعية و اُطلق على لولا القابا بالمخلص ونصير الفقراء.
ركزت الرؤية الشاملة للولا داسيلفا بما ادخله على العلاقات السياسية و الدولية لبلاده من تغييرات بحيث تحالفت البرازيل في سياسته الخارجية مع البلدان النامية , ففي حوار اجرتة معه قناة الجزيرة بتاريخ /4/5/2009 قال :قررت حكومتي منذ العام 2003 اننا سنعمل علي تغييرات في الخارطة الجغرافية والسياسية والتجارية للعالم. نحن اتخذنا ثلاثة موافق اساسية: الاول هوالعمل علي ايجاد تكامل صلب في كل من امريكا الجنوبية وامريكا اللاتينية ، الثاني هو ان تتخذ البرازيل قرارا بان تكون لدينا علاقات مع دول افريقية والثالث هو الالتفات الى الشرق الاوسط والذى تتمتع البرازيل بعلاقات تاريخية معه.
وقال ان العلاقات قبلها كانت شبة معطلة كان لدينا ميزان تجاري قدره ثمانية مليارات دولار مع ما يسمي العالم العربي ومنذ انطلاق هذه القمة بيننا ارتفع ميزاننا تجاري الى عشرين مليار دولار والاهم هو العمل على التفاهم الجيد بين الدول لكي لا تكون هناك علاقة تجارية فحسب بل نطور ايضا علاقات سياسية وثقافية و لكى نجد انفسنا احرارا من قيود في العلاقات.
و قيل الكثير عن حياته البائسة ولكن اهم ما في الرجل انه اسهم بصفاته الشخصية في بناء دولة قوية و من ثم كان احترامه لذاته و سمعته الشخصية والسياسية قاده الى السعى لبناء مجتمع و دولة حرة وقوية وحين طالبه الشعب بتعديل الدستور رفض الامر وقال لكى لا تتكرر تجربة العسكريين والحكم الديكتاتوري و يكون تداول السلطة منهج الحكم.
ومن الإصلاح السياسي في البرازيل أن الحكومة والمعارضة تتصرفان كشركاء غير مباشرين وليس كأعداء، والتزمت المؤسسة العسكرية بالحياد التام تجاه العملية الديمقراطية وتدفقت العمالة الأجنبية على البرازيل؛ وبلغت تحويلاتها السنوية أكثر من مليار دولار، ولا تقبل البرازيل من المهاجرين سوى الفنيين والعمال – أغلقها إلا عن تاجر أو صانع!- ويتوقع أن يصبح اقتصاد البرازيل سادس اقتصاد على مستوى العالم عام (2050م) متجاوزاً بعض دول الفيتو.
وفي المجال الاجتماعي طبقت البرازيل برنامجاً فعالاً لمحاربة الفقر قبل وصول “لولا” للرئاسة؛ لكنه هو الذي نفخ فيه الروح وأنعشه، حيث جعل الإعانات المالية للأسر مشروطة بما يؤدي في النهاية إلى تقليص الفقر، ورفع المستوى الصحي والتعليمي، ولم تكن الرعاية الاجتماعية مجرد منح شيء من المال قد يكفي وقد لا يكفي، واستفاد من هذا البرنامج (11) مليون أسرة تمثل ربع السكان تقريباً.
وتشترك البرازيل مع العالم العربي في عدة تجمعات سياسية واقتصادية، ولها علاقات تجارية واسعة مع مصر والسعودية والجزائر– وهي بالمناسبة تشبه البرازيل كثيراًـ ويعيش على أرض البرازيل (12) مليون عربي سدسهم تقريباً مسلمون؛! وأهم الجماعات الضاغطة هي القوات المسلحة، والكنيسة الكاثوليكية، واليسار، والطلبة، ولليسار والطلبة علاقات وثيقة مع النقابات العمالية أو تنسيق كبير معها، وللشعب البرازيلي حضور واضح في شؤون بلاده الاقتصادية والسياسية بعد أن تجاوزوا مجرد الولع بكرة القدم، وغدا السؤال الذي يطرحونه في محافلهم: هل ستصبح البرازيل خلال القرن الجديد أهم قوة عالمية أم مجرد واحدة من القوى الكبرى.
ليست الغاية من استعراض التجربة أن نكتنز معلومات إضافية، وإنما العبرة أن نستفيد من تجربة بلد يتشابه مع عالمنا الإسلامي من حيث المساحة والسكان ووفرة الموارد، مع الابتلاء بالتدخل الاجنبي، وسيطرة العسكر وحكومات الاستبداد، لكنهم تخلصوا من سطوة الأستعمار وسيطرة الفاسدين، وحزموا أمرهم، وامتلكوا حرية اتخاذ القرار النافع لبلادهم دون مصادمة أو مناكفة، حتى نفضت البرازيل عن نفسها غبار التخلف، وطردت شبح الإفلاس، وها هي تطالب بمقعد دائم في مجلس حكم العالم، ومن يدري فربما تكون في قابل الأيام كأمريكا في أيامنا.
بالطبع التجربة البرازيلية تستحق التأمل, فالبرازيل الآن سابع قوة اقتصادية في العالم, بعد أن كانت دولة علي وشك الإفلاس, وهي معجزة لم تتحقق في يوم وليلة بل كانت ثمرة لإصلاح اقتصادي استمر11 عاما , و لم تتحقق بالصدفة للسلطة, وإنما بسياسات استهدفت بالدرجة الأولي مصلحة البرازيل فوق كل المصالح في أواخر عام2002 فاز لولا دا سيلفا, مرشح اليسار برئاسة البرازيل, في وقت كانت البلاد فيه على وشك الانهيار, فالديون الخارجية تجاوزت250 مليار دولار, والداخلية تضاعفت بنسبة900%, والفقر والتضخم والبطالة تجاوزت كل الحدود, والجريمة المنظمة هيمنت علي كل شيء.
الرئيس الجديد تبني سياسات اشتراكية لحل مشكلة الفقر, وسياسات ليبرالية لحماية مصالح الأغنياء ورجال الأعمال, مزج بين الاشتراكية والرأسمالية, ونفذ برنامجا صارما للتقشف, ودعا شعبه للتحمل حتي يتعافي الاقتصاد. السياسات الجديدة نجحت في خفض عجز الموازنة وتدفق الاستثمارات وتوفير فرص عمل جديدة, ومع تقديم قروض للمشاريع الصغيرة. ارتفع دخل نصف الشعب بنحو68%, ومع تشجيع الزراعة والصناعة والسياحة واستخراج النفط والمعادن و استعاد الاقتصاد عافيته وبلغ نموه السنوي(6%)
في وقت عانى العالم فيه من أزمة اقتصادية خانقة عامي (2008-2009م) تحقق التوازن في ميزان المدفوعات وأصبح صندوق النقد الدولي مدينا للبرازيل بـ14 مليار دولار ومع تطبيق برامج العدالة الاجتماعية ارتفع الحد الأدني للأجور, وتم التوسع في نظام الإعانات المشروطة للأسر الفقيرة, بما يوازي40% من الحد الأدني للأجور, بشرط التزام تلك الأسر بتعليم أبنائها.
وعلي الصعيد الخارجي انضمت البرازيل إلي تكتلات اقتصادية أهمها ( الميركوسور) في أمريكا الجنوبية, و(البريكس) الذي يضم روسيا والصين والهند وجنوب افريقيا. البرازيل الآن سابع قوة اقتصادية عالمية, بعد أمريكا والصين واليابان وألمانيا وفرنسا, وهي أقوي ــ اقتصاديا ــ من بريطانيا وايطاليا وروسيا وكندا, ناتجها القومي الاجمالي23 تريليون دولار, والبطالة لا تتعدي62%, ومعدل النمو السنوي تجاوز الـ5%.
مع التأكيد على أن أي نموذج مهما كان ناجحا لا يمكن استنساخه في بلد آخر، ولكن يجب الاستفادة والاسترشاد بتلك النماذج في بناء نموذج اقتصادي طموح للخروج من الأزمات الاقتصادية الكبيرة التي تعيشها العالم بشكل عام .
أولا: مراحل تطور الأوضاع الاقتصادية
في البداية يجب الإشارة إلى تطور النظام السياسي في البرازيل، حيث يعتبر البعض أن سنة 1964 هي بداية الحكم العسكري القمعي في البرازيل عندما استولى الجيش على الحكومة بشكل كامل ، لكن في الواقع تعود بداية الحقبة العسكرية إلى سنة 1930 عندما تولى الجنرال “غيتويلو فارغاس” الحكم ومن بعده تعاقبت الحكومات العسكرية وتراجعت الديمقراطية والحرية وانتشرت الاعتقالات والأزمات الاقتصادية والحروب الأهلية داخل البرازيل.
وفى منتصف السبعينيات تولى الجنرال “ايرنستو غيسيل” ومن بعده الجنرال “جون بابتيستا فيغوريدو” رئاسة البلاد حتى منتصف الثمانينات، وسار كلاهما في طريق التحول التدريجي نحو الحكم المدني، وهذا ما يعنى أن البرازيل شهدت عشر سنوات انتقالية بين نظامين سياسيين أولهما عسكري استبدادي قمعي وثانيهما مدني مؤسسي ديمقراطي، وتعاقب منذ 1985 الرؤساء المدنيين، وكان أولهم “خوسيه سارنى” وآخرهم حتى هذا التاريخ هي الرئيسة الحالية “ديلما روسيف” والتي كانت احد المعتقلين البارزين إبان الحكم العسكري ومن أهم النشطاء والمناضلين اليساريين في تلك الفترة.
ولكن منذ 1985 وحتى 2012 اى خلال 27 عاما من الحكم المدني الديمقراطي عقب انتهاء الحقبة القمعية العسكرية، برز اسم الرئيس “لولا دا سيلفا” الذي تولى رئاسة البلاد لمدة ثماني سنوات (2003-2010)، حيث تقدمت البلاد خلال تلك الفترة تقدما كبيرا على الصعيدين السياسي والاقتصادي. ويمكن تلخيص طبيعة الأوضاع الاقتصادية على مدار أربع عقود على النحو التالي:
1. فترة سبعينيات القرن العشرين:
في خلال تلك الفترة تبنت الحكومات العسكرية سياسات رأسمالية دافعت فيها عن مصالح رجال الأعمال وأصحاب الشركات، دون الاكتراث نهائيا بالطبقات الفقيرة وقامت بدور حامى البلاد من الوقوع في خطر الشيوعية وتكرار النموذج الكوبي، وشكلت تحالفا قويا مع الرأسمالية الوطنية والإدارة الأمريكية. كما عمدت إلى الاقتراض من الخارج لتنفيذ مشروعاتها التنموية، مما خلف ديون اقتصادية كبيرة شكلت عبء على الأجيال اللاحقة.
2. فترة ثمانينات القرن العشرين
واجهت البلاد مثلها مثل دول أخرى في العالم الثالث أزمة الديون خاصة بعد السياسات الاقتراضية المتهورة التي انتهجتها الحكومات العسكرية، ومن ثم شهدت فترة الثمانينات عدة محاولات للسيطرة على معدلات التضخم المرتفعة كما شهدت تراجعا في معدلات النمو.
3. فترة تسعينيات القرن العشرين
أما في هذه الفترة والتي كان الجيش قد تراجع تماما عن الحياة السياسية وأتم الانتقال السلمي والتدريجي للسلطة إلى حكومات مدنية متعاقبة، فقد انتهجت الحكومات المدنية في خلال عقد التسعينيات سياسات اقتصادية رأسمالية، حيث تبنت سياسات الانفتاح الاقتصادي وسياسات السوق وعمت البرازيل حمى الخصخصة والتحرير الاقتصادي كما كان الحال في العديد من دول العالم الثالث التي اتبعت توجيهات صندوق النقد والبنك الدوليين، وهو ما أدى إلى تقدم في مؤشرات الاقتصاد الكلى وهو ما لم يكن يعنى تقدما فعليا، بمعنى أن سياسات الانفتاح الاقتصادي أصابت المنتجين المحليين بخسائر فادحة مما أدى إلى مزيد من البطالة وتراجع حاد في الإنتاج المحلى ومن ثم تراجع معدلات التصدير وكذلك أيضا ارتفاع معدلات الفقر التي كانت مرتفعة بالأساس، وعلى هذا فقد أثبتت تجربة التسعينيات في البرازيل والعديد من دول العالم الثالث أن استقرار الاقتصاد الكلى لا يعنى بالضرورة نموا حقيقيا في الاقتصاد والإنتاج ولا يعنى تقدما في مستوى دخل الأفراد وحل المشكلات الاقتصادية مثل البطالة ومستويات الفقر المرتفعة ومشكلات الدَّين العام والتضخم وغيرها.
محاولات كاردوسو
قدم الرئيس الأسبق “كاردوسو” (1995-2002) محاولات عديدة لإصلاح الاقتصاد البرازيلي، حيث وضع خطة “الريال” التي كان هدفها دمج الاقتصاد المحلى في الاقتصاد العالمي. واتجهت محاولاته الإصلاحية منحى تبنى سياسات السوق الحر والاستدانة الخارجية، حيث ارتفع الدَّين الخارجي من 150 إلى 250 مليار دولار خلال فترة رئاسته، وقد أدى هذا التضخم في الدَّين إلى أزمة انعدام الثقة في الاقتصاد البرازيلي سواء من الجهات الدولية المانحة أو المستثمرين المحليين والأجانب.
كما اتجهت سياسات “كاردوسو” أيضا نحو طرح سندات الدَّين الداخلي بفوائد مرتفعة مما شجع المستثمرين على التخلي عن الاستثمار المنتج لصالح شراء السندات الحكومية حتى ارتفع الدَّين الداخلي بنسبة 900% ، وهكذا انحرفت محاولاته إلى مزيد من الأعباء على الأجيال القادمة ولم تحقق تقدما في الإنتاج بل تقدما فقط في قطاع المال وزيادة في الديون وتعقيد اكبر لازمة الثقة، وبالطبع استمرار الأوضاع الاقتصادية المتردية للطبقات الفقيرة.
وقبيل انتهاء فترة رئاسته وبالتحديد في يوليو 2002 سعى “كاردوسو” سعيا مستميتا للحصول على قرض جديد من صندوق النقد الدولي، وراح يتعهد باتخاذ خطوات للتصدي لانعدام الثقة. وفى أغسطس من نفس العام رد الصندوق بأنه على استعداد لإقراض البرازيل قرضا ب30 مليار دولار ولكن عقب الانتخابات الرئاسية ومعرفة توجهات الرئيس الجديد، وهكذا ترك “كاردوسو” الحكم مخلفا وراءه مشكلات اقتصادية كبرى تلقى بظلال الإفلاس على البلاد، على الرغم من محاولاته الحثيثة لحل هذه المشكلات.
ثانيا: طبيعة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية عند وصول “لولا” للحكم في 2003
1. مشاكل اقتصادية:
تعاظمت المشاكل الاقتصادية وقد كان منها: مشكلة انخفاض قيمة الريال البرازيلي أمام الدولار الأمريكي، والتضخم وارتفاع مستويات الدَّين العام سواء الخارجي أو الداخلي –كما سبقت الإشارة– وهو الأمر الذي أدى إلى ما عرف بأزمة الثقة وضعف معدلات النمو . بالإضافة إلى مشكلة النقص الحاد في توصيل الكهرباء إلى مساحات شاسعة من البلاد، وهو ما يعيق مشروعات التنمية الزراعية والصناعية بشكل كبير ومن ثم أيضا معدلات النمو.
2. مشاكل اجتماعية:
منها على سبيل المثال مشكلة التسرب من التعليم وتردى أحوال المدارس بشكل عام. بالإضافة إلى انتشار الجريمة المنظمة وخاصة تجارة المخدرات شأنها في ذلك شأن معظم دول القارة. إلى جانب مشاكل الجوع والبطالة والفقر الحاد والتفاوت الشديد بين طبقات المجتمع، الذي كان ينقسم بوضوح شديد إلى طبقتين، الأولى عبارة عن شريحة رفيعة جدا من الأغنياء غنىً فاحش في مقابل شريحة عريضة من الفقراء فقر مدقع فيما تكاد تكون الطبقة الوسطى غير مرئية على الإطلاق في مشهد صارخ للتفاوت الاقتصادي وانعدام شبه كامل للعدالة الاجتماعية.
ولعله من الصعب رسم خط فاصل بين المشكلات الاقتصادية من ناحية والاجتماعية من ناحية أخرى، حيث أن كلا منهما يؤدى إلى الآخر وفى البرازيل تبدو الأمور أكثر تداخلا وتعقيدا. فعلى سبيل المثال هناك حلقة مغلقة تدور فيها مشكلتي التسرب التعليمي وعصابات المخدرات، بمعنى أن أطفال الأحياء الفقيرة يتسربون من التعليم فتضيع فرصهم في الحصول على وظائف محترمة فلا يجدوا أمامهم سوى العمل في عصابات المخدرات، وتلك العصابات تقاوم بشدة كافة برامج الإصلاح الحكومي للأحياء الفقيرة لان هذا الإصلاح من شأنه الإضرار بتجارتها، ومن ثم يزيد الفقر والجوع بسبب عدم الحصول على التعليم وهكذا، حتى تتصل الدائرة وتغلق وتحكم الخناق على مستقبل النمو والتقدم في البرازيل.
وفى مثال آخر فإنه وبسبب الفقر لجأت الدولة مرارا للاستدانة من الخارج لتوفير الاحتياجات الأساسية ولكن زيادة هذه الديون أدت بالبلاد إلى أزمة ثقة قوية حجبت عنها الاستثمارات الأجنبية بل والمحلية ومن ثم تناقصت المشروعات الاستثمارية، وهو ما أدى إلى ارتفاع نسبة البطالة ومعدلات الفقر وهكذا، مما يعنى مجموعة من الحلقات المغلقة التي تجعل الحلول تؤدى في اغلب الأحيان إلى مزيد من المشكلات وتردى الأوضاع الاقتصادية.
ولذلك يمكن القول أن ” لولا ” تسلم مقاليد حكم دولة تشرف على الإفلاس لعدم قدرتها على سداد دَين خارجي كبير، وتعانى من أزمة ثقة حقيقية حالت دون حصولها على قروض جديدة بدعوى عدم قدرة الاقتصاد الوطني على السداد، والاهم من كل ذلك انه أصبح رئيسا لدولة يقترب عدد سكانها من 200 مليون مواطن يعانى اغلبهم من كوارث اجتماعية متمثلة في الفقر والجوع والبطالة وغيرها كما سبق الإشارة وسط آمال وطموحات عريضة من ناخبين أعطوه أصواتهم ليكون لهم بمثابة طوق النجاة من هذا الظلم الاجتماعي الذي توارثته أجيال وراء أجيال في تلك الدولة وخاصة باعتباره رئيسا ذو خلفية عمالية وانتماء يساري قوى.
…
يتبع في الجزء الثاني
____________