رجل من رجالات الوطني
إعداد شكري السنكي
نماذج مِن كتابات أحمَد إحواس
نشر أحمَد إحواس مجموعة مِن المقالات فِي مجلّة (الإنقاذ) وبعض إصدارات الجبهة الأخرى ودوراتها كـ(النشرة الدّاخليّة) التي كانت تصدر عَن (مفوضيّة التنظيم والتعبئة) ويتولاها الأستاذ محمود الناكوع بصفته مفوّض التنظيم والتعبئة وقتئذ. وتناول إحواس فِي مقالاته، موضوعات: المحنة، والنّضال، والمعركة مع الاستبداد، والدّيمقراطيّة، والقيادة القادرة على إدراك الأهداف البعيدة والقريبّة. وكانت مقالاته بعيدة كلَّ البعد عَن التناقض بين المقدمات والنتائج.. وواضحة لا لبس فيها ولا غموض.. ودقيقة فيها مِن التركيز مَا يجعل المسافة بينها وبين الإطالة وهدر الوقت، شاسعة وكبيرة. أخترت ثلاث مقالات مِن مقالات شهيدنا البطل، جاءت الأولى تحت عنوان: (فِي القيادة)، ونشرها فِي مجلّة (الإنقاذ) بتاريخ يونيه / حزيران 1986م.. والثّانيّة نشرها فِي مجلّة: (الإنقاذ) بتاريخ أغسطس/ أب 1983م، وجاءت تحت عنوان (يصنع التّاريخ مَنْ يصنع المُسْتقبل).. ونشر الثالثة فِي مجلّة (الإنقاذ) تحت عنوان: (المعركة فِي الداخل: متى وكيف ؟)، وصدرت بتاريخ شهر إبريل / نيسان 1984م. جاءت المقالة الأخيرة فِي ثلاث صفحات، وأورد فِي خاتمتها، سبع عشرة مهمّة نضاليّة رأى مسئوليّة القيام بها تقع على عاتق الجميع، أفراد كانوا أو جماعات. وقد اكتفيت بإعادة نشر جزء واحد أو فقرة كاملة مِن فقرات هذه المقالة، نظراً لارتباطها بسياق التعريف بالشهيد أحمَد، وبهدف تقريب صورته إِلى القارئ أقرب مسافة ممكنة لتكون واضحة بأدّق تفاصيلها. وأخيراً، أردت مِن عرض المجموعة المختارة مِن مقالاته، التعريف به مِن خلال منطقه وتعبيراته ومفرداته.. والتعرّف عليه أكثر مِن خلال إنتاجه الكتابي. وقصدت مِن عرض هَذه المجموعة، الإلمام بمنطقه ومنطلقه، وفِي الأوَّل والأخير، التحيّة له وإعادة التذكير به كمُثقف وكاتب وسياسي ومُناضل دافع عَن وطنه وكرامة شعبه إِلى أخر قطرة مِن دمه.
المقالة الأولى: (فِي القيادة)
إنّ أخطر مهمّة وأصعبها فِي الحيَاة هي قيادة البشر بفاعليّة ونجاح.. وإذا كانت جميع الأعمال العامّة صغيرها وكبيرها تتطلب جهداً مُنضماً لإنجازها، ولا يمكن تنظيم هَذا إلاّ بقيادة قادرة على إدراك الأهداف البعيدة والقريبّة ومُتطلبات ذلك الجهد، فإن الجزء الأكبر مِن النجاح يتوقف على قدرة القيادة وكفاءتها. لا أريد أن أطيل المُقدِّمَة.. فكلنا يدرك مدى أهميّة وخطورة مَا نحن مقدمون عليه مِن عمل، ومَا تكتنف هَذا العمل مِن صعوبات، ومَا يتطلبه مِن تضحيّات، ومَا تحف به مِن مخاطر.. وإذا أردنا أن نجسد بكلّ جديّة مَا نطرحه مِن شعارات حول (الدّيمقراطيّة) والتي تعني فِي فهمنا الاختيار الحرَّ والمشاركة الشّعبيّة فِي تحمّل المسؤوليّات، فإنّه يتوجب علينا التأكيد على معاني الحريّة والشجاعة الأدبيّة واحترام الرّأي الآخر مع الفهم التّام لطبيعة المرحلة التي نمر بها وبمعطياتها الحقيقيّة. كمَا أن المعرفة الواسعة بطبيعة النَّاس الّذِين نتحرَّك بينهم، وفهم مستوياتهم الثقافيّة والفكريّة، ومَا يحيط بهم مِن ظروف سياسيّة واجتماعيّة، أمر فِي غايّة الأهميّة والضرورة، ومِن المقومات الأساسيّة للنجاح.
وإذا نظرنا إِلى واقع إحدى ساحات العمل الوطنيّ التي نعمل فيها، نستطيع أن نؤكد أن المستوى الثقافي للّيبيّين عال فِي عمومه، ولكن مستوى الوعي السّياسي فِي واقع الأمر لا يتناسب معه. وذلك راجع لأسباب لا نريد الخوض فيها الآن، إلاّ أنه يتحتم علينا أن نجد التوازن المطلوب فِي طريقة تعاملنا وتحركنا فِي هَذه السّاحة، حتَّى نعوّض النقص فِي الوعي السّياسي دون الوقوع فِي أحد المحاذير المحيطة بالقيادة، والتي منها الاستبداد بالرَّأي، أو الغرور، أو التقليل مِن أهميّة الآخرين ودورهم، أو أن يتفرق مِن حولنا النَّاس.. وإذا نظرنا مِن زاوية أخرى إِلى هذه الساحة نجد أن فيها الكثير مِن الأفراد الّذِين يرتبطون بشكل أو بآخر بفصائل المُعارضة المتعددة إلاّ أن الغالبية لا تنتمي لأيَّ مجموعة بل أنها مهتمة بالعملِ الوطنيّ مِن خلال متابعة الأخبار عَن بُعد.. ولذا فإنّ مسؤوليّة تحرَّيك الجميع، كبيرة وتتطلب جهداً خاصّاً، ويتوقف نجاحنا فِي ذلك على الأسلوب الّذِي نتبعه حيال هؤلاء جميعاً..
إنّ مِن (الغباء) مُمارسة القيادة بحيث يعامل الجميع بتطابق كامل.. بمعنى أن الاختلافات الأساسيّة بين النَّاس فِي الفهم والإدراك والاهتمامات، وفِي الجوانب النفسيّة والمعنويّة، وفِي القدرات والاستعدادات، يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار عند التعامل مع البشر مِن موقع المسؤوليّة.. كبرت أم صغرت هذه المسؤوليّة، مع الحذر الشديد فِي ذلك حتَّى لا ننسى مقتضيات العدل والإنصاف فتخرج بذلك – لا قدر الله – عَن الطريق السوي، لا شكّ إنّ التوازن بين الأمرين صعب للغايّة، ولذلك فإنَّ القيادة بالمفهوم الصحيح مسؤوليّة عظيمة وأمانة كبرى نسأل الله تعالى أن يُعين مَنْ يُكلف بها، وأن يثبّته كي لا ينحرف إِلى أحد النقيضين: التفريط أو الإفراط. ولكي تنجح في مسؤوليتك القياديّة عليك أن تستمع جيداً قبل أن تتحدث.. فالإستماع لمَنْ معك يزيدك معرفة بهم وبآرائهم، ويعينك على فهم مواقفهم ووجهات نظرهم فهماً دقيقاً. كمَا عليك أن تكون قادراً على تكييف رأيك معهم إِلى أقصى حدٍ ممكن، وتأكد بأن حماسهم يكون أكثر لأيَّ صيغة يطرحونها مَا لم تكن قادراً على إقناعهم قناعة تامّة بسواها.
* إن القائد الناجح هُو الّذِي يستطع اكتشاف طرق أكثر للتعامل مع مَنْ يقود، تكون كلها مقبولة ومحققة للغايّة التي يستهدفها الجميع. * راع الحالة النفسيّة لزملائك، وتودد إليهم، وأعطهم مِن حبك وتقديرك ووقتك أكثر مَا يمكن.. تجدهم معك بنفس القدر. * لا تقوّم زملائك بآراء الآخرين فيهم.. وأبحث عَن مواطن اللقاء بين زملائك لتنميتها، وابتعد عَن مواطن الخلاف معهم وبينهم.. وتجاوز عَن الهفوات تتوطد الثقة بينكم. * عالج القصور بحكمة وبطريقة لا تترتب عليها سلبيات.
هذه بعض الأمور التي رأيت معالجتها من خلال ملاحظّات واقعيّة مكتفياً بهذا القدر الّذِي لا يسمح المقام بأكثر منه، ولنا عودة للموضوع.
المقالة الثانية: (يصنع التّاريخ مَنْ يصنع المُسْتقبل)
تختلف وجهات نظر الِلّيبيّين عند التطرق للحديث عَن مُسْتقبل بلادنا الحبيبة ليبَيا بعْد إسقاط فوضى القذّافي باختلاف التجربة الشخصيّة، واختلاف الدّور، واختلاف الموقع والمسئوليّة، والاهتمام لكل متهم. وإذا حاولنا أن نحدد هذه الرؤى فيمكن تقسيمها إِلى اتجاهات ثلاث: * أحداها يمثل النظرة المتفائلة، وهي التي تعطي أهميّة كبيرة لرصيد تجربة الشّعب الِلّيبيّ مِن خلال مُمارسات القذّافي المنحرفة عبر سنوات حكمه المُنهار، ومَا تخللها مِن ظلم، وفساد، وطغيان، وهَذا الاتجاه يعتبر كلَّ ذلك محنة ولكل محنة نتائج إيجابيّة. * الاتجاه الآخر يمثل النظرة المتشائمة، وهي التي تستند فِي رأيها هَذا على واقع المنطقة الآني بصفةِ عامّة، وعلى واقع الشّعب الِلّيبيّ فِي ظروفه الحاليّة بصفةِ خاصّة. * الاتجاه الثالث فيمثل النظرة السطحيّة الاستسلاميّة التي تنتظر زمن المعجزات، وتردد فِي يأس (المُسْتقبل بيد الله)، غير آخذة فِي الاعتبار سنن الله سبحانه وتعالى فِي هَذا الكون.
إنَّ التحليل المنطقي لما يمكن أن يكون عليه مُسْتقبل بلادنا الحبيبة لابُدَّ أن يأخذ فِي الاعتبار وجهات النظر هذه، ولكنها يجب أن تؤخذ فِي إطارها الصحيح، والتفاؤل والتشاؤم أمران يقومان على معطيات نسبية يختلف تقديرها مِن شخص لآخر، أمّا النظرة السطحيّة فليس لها فِي التحليل الموضوعي مكان يذكر.
مِن هذه المُقدّمة الضروريّة أحاول تسليط الضّوء على الدّور الّذِي يجب أن يقوم به أهمّ العوامل الرّئيسيّة المؤثرة على مُسْتقبل بلادنا، وهُو الشّعب الِلّيبيّ لنعي هَذا الدّور ونحدد دورنا فيه… نعم إنَّ المُسْتقبل بيد الله وإرادته نافذة، وأمره صائر، ولا راد لقضائه، فقدرته سبحانه وتعالى مطلقة، ومشيئته غير محدودة، وحكمته بالغة، ولله سبحانه وتعالى سنن فِي هَذا الكون، ونواميس فِي هذه الحيَاة، فمن سنن الله الجارية: الأخذ بالأسباب، فإذا لم نساهم بفاعلية فِي صنع مُسْتقبلنا مِن خلال حاضرنا نكون قد تخلينا عَن دورنا الخيّر، وهُو لا يعني إلاّ الاستسلام لأية قوَّة مِن قوى الشّر والتسلط والطغيان والظلم، كمَا هُو حادث الآن على أرض الواقع. وَمِن سنن الله الجارية: الصّراع الأزلي بين قوى الخير وقوى الشّر.. وفِي ليبَيا إمّا أن تتغلب القوى الخيّرة والمتمثلة فِي عموم شعبنا الطيب الصّابر بكلِّ خصائصه الإيمانيّة، وقيمه، وتاريخه، وحضارته، وإمّا أن تتسلط قوى أخرى دخيلة على أمتنا ببرامجها، وممارساتها، غريبة عَن مجتمعنا بأهدافها ومراميها، كمَا هُو واقع الوضع الحالي الممقوت.
إنَّ الِلّيبيّين هم مِن أهمّ العوامل المؤثرة فِي صنع مُسْتقبل ليبَيا، وإذا كانت مرحلة النَّضال بطبيعتها لا يساهم فيها إلاّ البعض، فإن مساهمة الكل فِي صنع المُسْتقبل واجب وحق، وهذا مَا دعى الجبهة الوطنيّة لإنقاذ ليبَيا، إِلى التأكيد على هّذا الدّور مِن قبل كلّ الشّعب الِلّيبيّ فِي تحديد معالم مُسْتقبل ليبَيا بعْد إسقاط القذّافي، وحتَّى لا تتكرر المأساة.. مأساة غياب الشّعب عَن ممارسة دوره الإيجابي، ومأساة تسلط طغمة فاسدة على مقاليد الأمور أعطت لنفسها حق الحكم المطلق بأهوائها المنحرفة، وسمحت لنفسها بالوصايّة الجائرة على الشّعب لتدمره باسمه، وتحقق لها ذلك إِلى حدٍ كبير.
وحيث إنَّ الِلّيبيّين هم العامل الرئيسي المؤثر فِي صنع مُسْتقبل ليبَيا، فإن دورهم قائم ومستمر لا ينتهي عند نقطة معينة، فإذا تمكنت مجموعة مِن إحداث التغيير، وإسقاط حكم القذّافي – وهُو قريب بإذن الله – فليس لهذه المجموعة أن تتولى السّلطة نيابة عن الشّعب، وليس لها أن تختار إلاّ مَا يختاره الشّعب، إذ الأمّة مصدر السّلطات، أمّا إذا حاولت تلك المجموعة أو غيرها أن تحيد عّن هذا المبدأ فمن حق الشّعب الِلّيبيّ، بل مِن واجبه أن يقف فِي وجهها، ويسترد حقه فِي اختيار أسلوب الحيَاة الّذِي يحقق له الكرامة والعزة، والاستقرار وبكلِّ الوسائل، ولا يقف دور الشّعب عند هّذا الحد بل يتعداه إِلى المراقبة، والمتابعة، والمحاسبة، فقد ترضخ السّلطة فِي فترة ما لضغوط، وقد تلبي مطالب بشكل مؤقت، بل قد ترفع شعارات براقة تدغدغ بها مشاعر النَّاس، وتكسب بها ثقتهم إِلى حين، ثمّ تتبرم، وقد تتنكر لتلك الشعارات بمجرَّد أن تتوطد اقدامها فِي السّلطة، ويستتب لها الأمر فِي الحكم. ففي تجربة الشّعب الِلّيبيّ مع الطاغية القذّافي لعبرة إذ جاء بشعارات جوفاء خدع بها النَّاس، وضرب على أوتار حساسة دجلاً ونفاقاً، وظهر بصورة تخالف حقيقته البشعة حتَّى تمكن مِن السّلطة، فبدأ فِي ممارسة الشّر، والفساد، والطغيان بطريقة تدريجيّة خادعة لم ينتبه شعبنا الطيب إِلى نتائجها إلاّ بعْد فوات الأوان.
إذن لابُدَّ مِن الانتباه والوعي، فلا يلدغ المؤمن من جحر مرتين كمَا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم، وحيث أن الحق يُنتزع ولا يُوهب، فلابُدَّ للحق مِن قوَّة تحميه وتدافع عنه، وتصر على إحقاقه.. هذه المبادئ لا جدال حولها، فلا يتوقع إذن بعْد هذه التجربة المريرة التي عاشها شعبنا فِي ظلّ فوضى القذّافي، وسلطانه الجائر، وعهده الزائف أن يظل النَّاس فِي موقع المتفرجين، أو السلبيين، ولا يحق لهم أن يتوقعوا مِن أحد أن يحكمهم كمَا يحبون مَا لم يمارسوا حقهم الطبيعي فِي الرقابة عليه، ويحاسبوه محاسبة دقيقة، ويصروا على تصحيح الخطّوات أولاً بأوَّل، وبدون تجاوز.
إنَّ قيام الشّعب بواجبه بقوَّة وعزم فِي وضع الأمور فِي نصابها، وتصحيح المسار بجدية ووعي هُو خير الضمانات وهُو الأسلوب الأجدى لمنع الانحراف، ولعلّ فِي الطرح المنطقي الّذِي ورد فِي البيان التأسيسي للجبهة الوطنيّة لإنقاذ ليبَيا حول البديل المنشود لعهد القذّافي المنهار مَا يعبر عَن أماني وتطلعات شعبنا الغاليّة، وهُو أن يقوم فِي بلادنا الحبيبة حكم وطني دستوري ديمقراطي يستلهم عقيدة الشّعب، وتراثه، وتاريخه. إنَّ صفة الوطنيّ – فِي فهمي – جاءت هُنا لتأكيد إرتباط الحكم بأماني شعبنا الِلّيبيّ، وآماله، وواقعه، وليس حكماً تبعياً لأيّة جهة أخرى مهما كانت. وصفة الدستوري جاءت لتأكيد معنى الاستقرار، والنَّظام، والأمن، وسيادة القانون، والفصل بين السّلطات، واحترام التخصصات وغير ذلك من المعاني الحضاريّة التي يجب السّعي الجاد لترسيخها. وصفة الديمقراطي جاءت لترسيخ مفهم الحريّة وأولها حرية الاختيار، وحريّة القرار، وحق الجميع فِي ممارسة الحريّة، بحيث يكون الدستور مقراً مِن قبل الأمّة بعمومها، وبالأساليب المتعارف عليها، والتي لابُدَّ أن تقرها الأمّة بنفسها، وليس تلبية لرغبة فرد، أو جماعة مهما كان دورهم، ومهما كانت تضحياتهم. ومَا التأكيد على استلهام عقيدة الشّعب، وتراثه، وتاريخه، إلاّ لتأكيد الانتماء إِلى خير أمّة أخرجت للنَّاس، ولتأكيد الارتباط بتاريخها الحافل المضيء، وبدورها الحضاري البناء، ولتأكيد الارتباط بالمنطقة، وتطلعاتها، وأمانيها فِي الرقي والتقدم.
أعود للحديث عَن الرؤى المختلفة التي ذكرتها فِي المُقدِّمَة، والتي اعتبرها محصلة طبيعيّة للظروف التي يمر بها شعبنا فِي ظلّ حكم الإرهاب، والتسلط القذّافي. فالمتفائلون مِن الِلّيبيّين يعتقدون بأن رصيد تجربة الشّعب الِلّيبيّ فِي مرحلة حكم المجرم القذّافي كاف لقيام بديل ناضج، ويأتي هَذا التفاؤل مِن: * إحسان الظن بالِلّيبيّين دون تقدير لاعتبارات ضعف التّجربة السّياسيّة الحديثة للشّعب الِلّيبيّ، وحاجته إِلى الكوادر السّياسيّة المجربة، والتي يمكن أن تقود الشّعب مباشرة إِلى مرحلة البناء… * أيْضاَ مِن عدم التقدير الصحيح للآثار السلبيّة الناتجة عَن ممارسات القذّافي، والمراحل التي مرَّ بها مُنذ سبتمبر / أيلول 1969م حتَّى الآن، وأساليب المكر والخداع التي ابتدعها، أو اتبعها. * ومِن عدم التقدير لما أحدثه الدجّال القذّافي مِن تخريب فِي البنية الاجتماعيّة، والثقافيّة، ومِن تدمير لأخلاق النَّاس وعلاقاتهم، بل حتَّى أذواقهم، ومِن بذر للشكوك، وعدم الثقة فضلاً عَن التردد، وعدم الحزم.
كلَّ ذلك – فِي نظري – يجعل استفادة الشّعب الِلّيبيّ مباشرة مِن تجربته المريرة أمراً صعباً وليس بالسهولة التي يتصورها بعض المتفائلين. أمّا المتشائمون، وهم الّذِين فقدوا كلّ أمل فِي شعبنا، وفِي إمكانياته، وفِي قدراته مستندين على مَا يلاحظ مِن: * تصرفات الِلّيبيّين الّذِين ارتبطوا بطريقة، أو بأخرى بنظام القذّافي الجائر، وممارساتهم المنحرفة، فساهموا فِي مسيرة الخراب… * المواقف السّلبيّة التي آثر كثير مِن الِلّيبيّين الركون إليها، ولم يذودوا عَن عقيدتهم، وأموالهم، وأعراضهم، التي عبث بها الدجّال القذّافي… لقد أغفل هؤلاء.. * محدودية التّجربة السّياسيّة لشعبنا الطيب، والسّياسة الماكرة التي انتهجها الطاغيّة مُنذ البدايّة لتشويه القيادات الشّعبيّة، وعزلها، وتفريغ المجتمع منها بطرق مختلفة حتَّى خلا له الميدان، وانفسح له المجال. * وتجاهل هؤلاء أساليب الترغيب، والترهيب التي اتبعها القذّافي، والتي لم ينج منها إلاّ مَنْ رحم الله. ومع كلِّ ذلك فالصورة ليست قاتمة، بل إنّ قوى الخير كامنة فِي شعبنا، وهي قوى عريقة أصلية (كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ، تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا).. وإنّ قوى الشّر غريبة دخيلة معزولة (كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ..).
وختاماً.. فإنّ مَا بين التفاؤل المفرط، والتشاؤم القانط، لنظرة واقعيّة يجدر بنا أن ننطلق منها لصنع المُسْتقبل الّذِي سيصبح يوماً ما مِن التّاريخ، ولا تصح المقارنة بين مَنْ يكتفي بقراءة التّاريخ، ومَنْ يصنع التّاريخ.. فصنع التّاريخ مهمّة جسيمة عظمى لا يضطلع بها إلاّ العاملون المخلصون، وبالمثل فلا تصح لصنع التّاريخ تلك الشّعوب الخائرة المغلوبة على أمرها، الغائبة عَن الممارسة الإيجابيّة فِي الحيَاة.
المقالة الثالثة: (المعركة فِي الداخل: متى وكيف؟)
حصلت ليبَيا على استقلالها سنة 1951م، ولم يكن هَذا الاستقلال منحة أو هديّة بل كان ثمرة لجهود مخلصة وتضحيّات جسيمة قدمها الأجداد والآباء مُنذ المُقاومة الشاملة للغزو الإيطالي الغاشم ومَا تطلبته تلك المرحلة مِن إعداد ومَا تخللها مِن تضحيّات، وأعمال نضاليّة جهاديّة حربيّة وسياسيّة على امتداد فترة الاستعمار الإيطالي، ومَا صاحبها وأعقبها مِن معاناة وهجرة وتشرد… أجل، لم يقف الشّعب الِلّيبيّ عاجزاً مستسلماً ولكنه حارب الغزو الإيطالي رغم قلة الإمكانات والعتاد، وألحق بالعدو خسائر جسيمة، ثمّ ناضل سياسياً يوم عجزت المُقاومة المُسلحة التي دامت أكثر مِن عشرين عاماً عَن طرد المستعمر بسبب قلة امكاناتها ونقصها أمام ضخامة العدد والعدة عند العدو الإيطالي.
إنَّ تحوّل الشّعب الِلّيبيّ إِلى النَّضال السّياسي بعْد توقف المُقاومة المُسلحة، وسعيه المستميت بكلّ الوسائل فِي طرد المستعمر الغاشم، يدل دلالة قاطعة على حيويّة هَذا الشّعب وقوَّة إيمانه، وقدرته على العطاء والتضحيّة، وعلى واقعيته واستعداده لمواجهة الظروف حسب متطلباتها وضروراتها. وبعد ذلك، تحقق الاستقلال، وتحققت لشعبنا الِلّيبيّ، أعظم آماله التي ضحى مِن أجلها بالآلاف مِن رجاله وفرسانه. وبعْد سنوات مِن الاستقلال، جاء النفط… وأضحى الشّعب الِلّيبيّ فرحاً باستقلاله وبما منّ الله عليه مِن خير فِي أرضه المعطاءة ليعوّض سنين الفاقة والعوز والحرمان وليواجه متطلبات الحيَاة العصريّة الجديدة ونفقاتها وتكاليفها.. وبالطبع واجهته صعوبات كثيرة وتعرض لكثير مِن الأخطاء خلال المسيرة الشّاقة.. ولعلّ أهمّ هذه الأخطاء وأكثرها خطورة هي حرمانه مِن الممارسة السّياسيّة الحرَّة خلال العهد الملكي الّذِي حلّ وحظر التجمعات السّياسيّة أحزاباً وجمعيات (13) فانصرفت اهتمامات النَّاس أو جلها إِلى الكسب المادي.. ولا شكّ أنها كانت سياسة خاطئة، ونظرة قاصرة يتحمل رجال ذلك العهد ومسئولوه وزرها الأكبر وقد دفعوا ثمنها باهظاً مِن أنفسهم ومعنوياتهم حيث نال منهم الدجّال القذّافي الكثير مُنذ بداية عهده الزائف المُتسلط واتخذ ذلك ذريعة لاعتقالهم وسجنهم وإقامة المحاكمات الهزلية والصورية لهم ومارس ضدَّهم كلَّ أنواع الترهيب والتشويه والضغوط النفسيّة والقهريّة.. لا نقول ذلك شماتة فِي رجالات ذلك العهد، ولا تقليلاً مِن شأنهم، بل لندين تلك الإجراءات التي قام بها الطاغيّة القذّافي ضدَّهم والتي لم تكن إلاّ محاولة حاقدة منه لتحطيم كلّ الماضي والبناء على انقاضه، وهي طبيعة كلَّ الطغاة فِي كلّ زمان ومكان.
لقد كانت الخسارة كبيرة، والشّعب بعمومه دفع ثمن تهاونه وتسليمه فِي حقه يوم قبل بسياسة العهد الملكي، بفرض الوصايّة عليه، وحرمانه مِن خوض تجربة سياسيّة تصقله وتؤهله لمواجهة المُسْتقبل بمفاجأته، ومهما كان الدّافع إِلى إنتهاج تلك السّياسة، ومهما كانت المبررات التي يقدمها رجال ذلك العهد، وهي كثيرة بالطبع ورُبّما كانت مقنعة آنذاك فإنّ تلك السّياسة هي التي مهدت الطريق ليس لمجيء القذّافي فقط، بل لبقائه واستمرار زيفه الّذِي لم يظهر لكثير مِن الِلّيبيّين بسبب قلة التجربة السّياسيّة إلاّ بعْد أن اشتد عوده، وقويت شوكته.
إنّ الخطأ قابل أن يتكرر، وقد يتكرر إذا غاب الشّعب مرَّة أخرى عَن ممارسة دوره وحقه بل واجبه فِي فرض إراداته، وفرّط فِي وضع الضوابط التي تضمن له مستقبله، أو إذا سمح لفرد أو لفئة مهما كانت أن تفكر بالنيابة عنه، أو تفرض الوصايّة عليه.. إنّ الثمن الّذِي دفعه الشّعب الِلّيبيّ باهظ جدَّاَ، وهُو جزاء سكوته عَن خطأ جزئي رُبّما كان له مَا يبرره خلال العهد الملكي، فكيف بالأخطاء الجسيمة والجرائم الفظيعة التي يجري ارتكابها مُنذ سبتمبر 1969م فِي حق الشّعب الِلّيبيّ نفسه وفِي حق عقيدته، وقيمه وأخلاقه وعلاقاته، وفِي حق ثروته وطاقاته، وفِي حق تاريخه وحاضره ومُسْتقبله، وكيف والجرائم قد ارتكبت فِي حق الأشقاء والجيران والأصدقاء، وفِي حق الإنسانيّة كلها، وإن ذلك الخطأ قد تترتب عليه أخطاء، وبهذا ستتكرر المأساة مَا لم يضع الشّعب الِلّيبيّ بنفسه حداً فاصلاً وحلاً حاسماً، ليتغيّر واقعه إِلى واقع آخر أفضل (إن اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)، ولا أخاله إلاّ فاعلاً بعون الله، وهَذا مَا تشير إليه التحولات النفسيّة والمعنويّة والنَّضاليّة خلال السنوات القليلة الماضيّة.
______________
المصدر: موقع مستقبل ليبيا