رجل من رجالات الوطني
إعداد شكري السنكي
أحمد احواس .. المفوض العسكري ـ الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا
وفِي شهر يوليو/ تموز مِن عاَم 1982م، انعقد المجلس الوطنيّ للجبهة فِي دورته الأولى بمدنية أغادير فِي المملكة المغربية. انتخب المجلس أعضاء اللجنة التنفيذيّة، والأشخاص الّذِين تمّ انتخابهم هم نفس أعضاء اللجنة القياديّة المؤقتة مضاف إليهم: فايز عبْدالعزيز جبريل، وناقص محمود سعد تارسين الّذِي تمّ انتخابه رئيساً للمجلس الوطنيّ، ومعه محَمّد رشيد الكيخيّا نائباً ومحَمّد علي يحيى معمّر مقرراً.
اُختير الأستاذ أحمَد إبراهيم إحواس مفوضاً عسكريّاً، ويذكر أن المقريَّف وإحواس كان قد تحصل كل منهما على (110) مائة وعشرة صوتاً فِي انتخابات أعضاء اللّجنة التّنفيذيّة فِي أوَّل انعقاد للمجلس الوطنيّ لجبهة الإنقاذ.
ومُنذ أن أعلن أحمَد إحواس استقالته، ضغط معمّر القذّافي على عائلته وسجن أخويه، وسعى للوصول إليه كذلك حاول إغراء الحكومة السّودانيّة بغية تسليمه. ويذكر أيْضاً أن أجهزة القذّافي الأمنيّة قامت بسجن عدد مِن أقارب وأصدقاء بعض المُعارضين فِي الخارج وهدمت بيوت عدد مِن رموز المُعارضة وكان الحاج أحمَد إبراهيم إحواس فِي مقدمة هؤلاء حيث تمّ التحقيق مع والده أولاً ثمّ سُجن أخويه: أحمَد حبيب ومرعي إحواس بعد إعلانه عَن استقالته فِي 18 يناير/ كانون الثّاني 1981م وانضمامه لصفوف المُعارضة وظلا فِي السجن حتِّى 2 مارس/ آذار 1988م حيث أُفرج عنهما فِي هذا اليوم مع عدد مِن السجناء السّياسيّين فيما عرف بـ(أصبح الصبح).
ذلك اليوم الّذِي خطب فيه معمّر القذّافي خطاباً استعراضياً ثمّ قاد عربة بنفسه فِي مشهد استعراضي أيضاً وقام بهدم بوابة أحد السجون سيئة السمعة والتي سرعان مَا امتلأ مجدّداً بالسجناء السّياسيّين فِي وقت لاحق!. وأقدمت أجهزة نظام القذّافي لاحقاً، على هدم بيته المكون مِن طابقين، والكائن بمنطقة بِن يونس فِي مدينة بّنْغازي.
وحاول نظام القذّافي إغراء الحكومة السّودانيّة وقدم لها عرضاً مالياً مغرياً، لأجل تسليم أحمَد إحواس وعدد مِن رفاقه إِلى طرابلس (10). ففي نوفمبر / تشرين الثّاني 1983م، أرسل معمّر القذّافي، مبعوثه الشخصيّ أحمَد قذّاف الدّمّ إِلى الخرطوم يحمل عرضاً ماديّاً سخياً للرئيس محّمّد جعفر النميري (1930م – 30 مايو/ أيّار 2009م) حينما كانت السّودان تمر بأزمة إقتصاديّة خانقة، وهي الأزمة التي رآها بعض المحللين وقتئذ بأنّها أزمة حقيقة تهدد استمرار نَّظام نميري فِي الحكم.
اجتمع أحمَد قذّاف الدّمّ مع اللواء عُمر محَمّد الطيب نائب الرئيس السّوداني، وقدّم للحكومة السّودانيّة عرضاً مالياً مغرياً، بالإضافة إِلى الوعد بتسليم ملفات وأشخاص لا يقلون أهميّة عَن العرض المالي المقدّم!.
عرض أحمَد قذّاف الدّمّ خمسة (5) مليار جنيه سوداني على الحكومة السّودانيّة أيّ مَا يفوق وقتذاك عَن مليار دولار لتمويل مشاريع تنمويّة تحتاج هذا المبلغ لتنفيذها مقابل إقفال الحكومة السّودانيّة لإذاعة الجبهة الوطنيّة لإنقاذ ليبيا، وتسليم خمسة أشخاص مِن قيادات الجبهة، وهم: الدّكتور محَمّد يُوسف المقريَّف، الأستاذ أحمَد إبراهيم أحواس، الأستاذ على رمضان أبوزعكوك، الدّكتور سُليْمان عبدالله الضراط، الأستاذ فائز عبْدالعزيز جبريل، بالإضافة إِلى أنّ الطائرة الِلّيبيّة التي سوف تأتي إِلى الخرطوم لنقل هؤلاء الأشخاص الخمسة إِلى طرابلس سوف يكون على متنها أربعين (40) شخصاً مِن مُعارضي النَّظام السّوداني الّذِين يتخذون مِن طرابلس مقراً لهم.
قدّمَ اللواء عُمر الطيب العرض الِلّيبيّ إِلى الرئيس محَمّد جعفر النميري، فما كان مِن النميري إلاّ أنّ كتب على الورقة المقدّم فيها العرض الجملة التاليّة: أوقفوا هذه التفاهات. هكذا كان موقف الرئيس محَمّد جعفر النميري مع رجالات ليبَيا الوطنيين – موقفاً رجولياً بكلّ المقاييس فِي زمن سجلت فيه صفحات التّاريخ خيانات كثيرة لدّول كانت أفضل حالاً مِن حالة السّودان وقتذاك، ومَا كان لمعمّر القذّافي بعْد موقف النميري الرجولي وصفعته الموجعة له إلاّ أنّ أرسل طائرات حربيّة ضربت بالقنابل مقر الإذاعة السّودانيّة بأم درمان، وكان ذلك فِي ربيع عَام 1984م.
ويذكر أيْضاً أن الحاج أحمَد إبراهيم إحواس كان قد مرّ بأزمة صحيّة خطيرة بعْد انتهاء أعمال المؤتمر الوطنيّ الأولى التي انعقدت جلساته فِي مدنية أغادير فِي المملكة المغربية فِي شهر يوليو/ تموز مِن عاَم 1982م، وقد أظهرت التشخيصات الطبية وقتئذ، احتمال تعرضه لمحاولة تسمم مكتملة. وقد أخبرتني الحاجة فاطمة ميكائيل بأنها تذكر أن عزات يُوسف المقريَّف كان قد جاءها إِلى البيت وأخبرها بأن الحاج أحمَد تماثل للشفاء مِن أزمة صحيّة كان قد مرّ بها الأيّام الماضيّة. وأضافت ليّ قائلة: “.. أنها علمت فيما بعْد أن هُناك صحيفة أوردت هذا الخبر وكتبت عَن هذه الحادثة، ولكنها لا تذكر أسمها تحديداً..”.
وَمِن نشاطه أيْضاً، كان أحمَد إحواس مِن وراء إصدار نسخة ثانيّة مِن مجلّة (الإنقاذ) وبعض مطبوعات الجبهة الأخرى، فِي حجم صغير جدَّاً بحجم الجيب أيّ بحيث يمكن حملها فِي الجيب، حتَّى تسهل عمليّة نقلها إِلى ليبَيا وكذا عمليّة توزيعها. وقد أصدرت الجبهة هذا الحجم مِن المطبوعات إِلى جانب الحجم العادي، وقام الحاج أحمَد بالإشراف على عمليّة إدخال هذه النسخ الخاصّة إِلى ليبَيا، وكُلفت عناصر فِي الدّاخل لاستلامها ثمّ توزيعها.
وَخلاصة القول، كان أحمَد إحواس نمُوذجاً فِي رِحلَة كفاحه، ومتفانياً ومخلصاً فِي عمله، ولعلنا ندلل على ذلك بالإشارة إِلى أنه أُنتُخِبَ مفوضاً عسكريّاً فِي شهر يوليو/ تموز مِن عاَم 1982م، وخلال سنتين فقط مِن انتخابه كان قد انتهى مِن أعداد المجموعة الفدائيّة المقيمة فِي المهجر بعد انقضاء الدورة التدريبية الأوليّة تحت إشرافه هُو شخصيّاً ومساعدة عزات يُوسف المقريَّف، والدورة التدريبيّة المتقدّمة على أيدي ضباط مِن القوَّات الخاصّة السّودانيّة بقيادة الضابطين: الرَّائد عبْدالمنعم فودة والنقيب تاج السرّ عبدالله. وأشرف على عمليّة تسفير هذه المجموعة مِن السودان إِلى تونس ثمّ إدخالها مِن تونس إِلى ليبَيا عبر البر والبحر بمساعدة علي أبوزيد الرجباني الذِي استشهد يوم الأحد 26 نوفمبر / تشرين الثّاني 1995م فِي لندن على يد عصابات القذّافي ومرتزقته.
وكان إحواس أيْضاً قد أكمل إنشاء شبكة عمل متكاملة داخل ليبَيا وكافة الترتيبات اللازمة الأخرى، فِي وقت كان فيه معمّر القذّافي فِي عنفوان قوته وجبروته ومسيطر على البلاد سيطرة شبة تامّة، وَفِي ظلِّ ظروف حياتية خيمت عليها أجواء اليأس والخوف والرعب، ونظام كان له صلاته وارتباطاته ودعم خارجي يُعتمد عليه إِلى حدٍ بعيد.
كل هذا يعني أنه كان خلال هاتين السنتين يعمل طوال النهار ولا ينام مِن الليل إلاّ ساعات قليلة ويستثمر الوقت بأفضل صورة ممكنة، لأجل الوصول إِلى الأهداف والغايات المنشودة. وقد ذكر عزات المقريَّف بالخصوص ما يلي: “.. كان أحمَد إحواس معطاءً لا يكف عَن العمل، مساهماً بقلمه ولسانه، فكتب المقالة، وأعد البرنامج، ووزع الأشرطة والمنشورات، وقدم المحاضرات، وقاد جنوده إِلى ساحات الوغى.
كأن لا ينام الليل قبل أن يطمئن على سير العمل، وعلى جميع مشاكل زملائه فِي العمل. أيّ والله، كان يشتغل فِي بيته حتَّى ساعات الصباح الأولى وكان يقضي الليلتين والثلاث بدون نوم اللهم بضع ساعات قليلة، وأن أغمض جفنيه ففي أقل الأماكن راحة تاركاً الأسرّة المريحة لزملائه. فِي إحدى رحلاتنا الخارِجِيّة أخذ يقلب مفكرته وأخبرني أنّه فِي خلال أربعة عشر شهراً متواصلاً مِن العمل قضى حوالي مَا مجموعة أثنان وعشرون يوماً مع أسرته، ولقد رأيته بأم عينّي كيف كان يقضي إجازته مع أسرته بين استقبال الضيوف، ومطالعة الأوراق والملفات، ومتابعة الاتصالات بالهاتف.
كان حريصاً على الوقت بشكل غير عادي إذ أنه كان يستغل وقت بقائه في حالة (الترانزيت) فِي المطارات فِي عمل المكالمات الهاتفيّة الهامّة، وإرسال البريد، ومقابلة بعض الرَّفاق فِي صالات المطارات، وكان كلّ وقته عمل حتَّى أنه فِي حوالي (36) ستة وثلاثين ساعة أتصل بيّ مِن أربع عواصم أوربيّة عدا العاصمة التي غادرها، ومِن حرصه على أموال الجبهة الوطنيّة لإنقاذ ليبَيا كان يسافر بالتذاكر الزائدة والمخفضة التي لم يستطع أصحابها الأصليون السفر بها، فكان يتجشم الصعاب والمخاطر الأمنيّة ليسافر بمثل هذه التذاكر قائلاً: (أحسن مِن رميها فِي سلة المهملات وضياع ثمنها على الجبهة)..”.
وربّما أضيف إِلى مَا ذكره عزات فيما يخص حرصه على أموال الجبهة، مَا ذكرته ليّ الحاجة فاطمة ميكائيل، فِي اتصال هاتفي أجريته معها، فقالت: “.. لم يتقاض الحاج رحمه الله مرتباً مِن الجبهة وكنا نعيش مُنذ يوم استقالته فِي أواخر يناير / كانون الثّاني 1981م مِن منصبه كقائم بأعمال السفارة الِلّيبيّة فِي غويانا، مِن مدخراته القليلة جداً، وقد علمت بعْد استشهاده أن مدخراته كانت على وشك الانتهاء ولذا طلب مِن الأخوين الحاج صابر عبْدالمجيد والسّيِّد حسين نعمان سفراكس، سلفة على أمل إرجاعها لهما إذا تمكّن مِن التصرف فِي ممتلكاته فِي ليبَيا..”.
وَفِي أبريل/ نيسان 1984م، كان الحاج أحمَد إحواس فِي طريقه للمشاركة فِي مظاهرة لندن، وبسبب تأخر وصول رحلته، مُنع مِن الدّخول إِلى ميدان التظاهر حيث وجده مغلقاً ومحاطاً بالشرطةِ، بعْد حدوث إطلاق نار على المتظاهرين، أدَّى إِلى سقوط جرحى وإصابة أيفون فلتشر الشرطيّة البريطانيّة فِي مقتل .
خططت القوى الوطنيّة، فصائل مُعارضة وحركة طلاّبيّة، للتظاهر أمام مبنى السفارة الِلّيبيّة بلندن فِي إبريل/ نيسان 1984م تعبيراً عَن معارضتها لنّظام القذّافي وعلى الإعدامات التي تُنفذ فِي مُعارضي النّظام يوم السّابع مِن أبريل مِن كلّ عام. أطلق موظفي السفارة النَّار على المتظاهرين، فسقطت أيفون فلتشر الشرطيّة البريطانيّة غارقة فِي دمائها، وجرح أحد عشر متظاهراً، كانت إصابة اثنين منهم خطيرة. قُتلت الشرطيّة البريطانيّة، وأدَّى مقتلها إِلى طرد الدّبلوماسيين الِلّيبيّين مِن لندن وسحب بريطانيا لممثليها فِي طرابلس ثمّ إِلى قطع العلاقات الدّبلوماسيّة بين المملكة المتّحدة وجماهيريّة القذّافي.
قال الأستاذ جمعة القماطي أحد المشاركين فِي مظاهرة يوم 17 أبريل/ نيسان 1984م، مَا يلي: “.. أراد أحمَد إحواس فعلاً المشاركة، ولكن رحلته مِن المغرب تأخر وصولها إِلى لندن. وعندما وصل إِلى الميدانِ الّذِي به السفارة وجده مغلقاً ومحاطاً بالشرطةِ مِن كلّ مداخله بسبب مَا وقع من إطلاق رصاص, وقد حاول وقتئذ اختراق الحاجز البوليسي للدخولِ إِلى المتظاهرين فِي الميدان ولكن البوليس دفعه إِلى الخلف ومنعه. وَفِي المساء قام الحاج أحمَد بزيارة الجرحى في المستشفى البالغ عددهم (11) أحد عشر جريحاً وإصابات اثنين منهم كانت جد خطيرة وقد نجوا جميعاً بِفَضْلِ مِن اللَّه وَرَحْمَته..”.
وفِي سياق مظاهرة لندن أيْضاً يُذكر أن زوجة الحاج أحمَد وأبنه أسعد، وصلا – بطلب مِن الحاج – إِلى بريطانيا بعْد أيّام مِن مظاهرة 17 أبريل/ نيسان 1984م، وأن الحاج كان قد طال غيابه عنهما شهوراً طويلةً بسبب مسئولياته وكثرة انشغالاته، ويبدو أنه كان ناوياً على ترك وصية لزوجته بعْد أن عقد العزم على السفر فِي مهمّة نضاليّة قد لا يرجع بعدها. وبالفعل، طلب مِن زوجته بعد لقائهما، أن تنهي كافة ارتباطاتها ومَا يتعلق بشئون البيت والإقامة فِي المملكة المغربيّة ثمّ تأتي على الفور إِلى لندن بغرض الإقامة.
وقد نفذت الحاجة فاطمة مَا طلبه زوجها منها، ووصلت إِلى لندن فِي الأوَّل مِن مايو/ أيّار 1984م. وَفِي غضون أقل مِن أسبوع مِن مجيئها إِلى لندن، وصلها خبر استشهاد زوجها، وكانت ساعتها فِي بيت عاشور الشامس، وقام السّيِّد عاشور بإخبارها بنبأ استشهاده بنفسه. كان الخبر صعباً ومؤلِماً وأثر فيها وعليها كثيراً، ولكنها صَبَرْتَ واحْتَسَبْتَ أمرها لله تعالى، وكان عزاؤها الوحيد أنه حيّ يرزق عند ربّه مع الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا.
دخول إحواس إِلى ليبَيا.. استشهاده ومعركة رفاقه مع قوَّات القذّافي وزبانيته
كان الحاج أحمَد إحواس يؤمن بأن المعركة مع نظام القذّافي ستكون طويلة، وأن أوَّل عمليّة سيكون لها أكبر أثر فِي مسيرة العمل الوطنيّ النّضالي، وأن خياره فِي طريق الكفاح أن توجه ضربات ضدَّ السّلطة الظالمة مِن داخل البلاد، وأنه سيتقدم المجموعة التي ستشعل فتيل الثورة. وقد أخبرنا الأستاذ محمود الناكوع فِي بابه الثابت فِي مجلّة (الإنقاذ) المُسمّى (خواطر مِن الميَدان) عَن قناعات رفيقه فقال: “.. لقد كان أحمَد إحواس يستعد ويعمل بجدٍ وتفانٍ منقطع النظير لكي يكون قدوة، ولكي يكون شهادة ومنارة ومعلماً لكل التواقين إِلى منازل اللقاء مِن أجل الحريّة والعزة ومنازل الشهداء الأبرار. وكان يردد دائماً: عندما تستعد الجبهة وعناصرها للدخول إِلى ليبَيا، سأكون أنا على رأس هذا العمل المجيد، وسنبدأ الشرارة الأولى لإشعال فتيل الثورة الشّعبيّة الكامنة فِي نفس كل ليبي وليبيّة..”. وأضاف رفيق آخر قائلاً: “.. لازلت أذكر يا أحمَد ذلك الموقف الّذِي ورد فيه الحديث يوماً عَن جنودك الأبطال، فحشرج صوتك، وأجشهت وأنت تقول (والله لو أصاب الشباب أيَّ شيء فإني أشعر أنها مسؤوليتي أنا شخصيّاً)..”. وَالشّاهد، دخل الأستاذ أحمَد إحواس إِلى ليبَيا بهدف التواصل مع قوَّاته المرابطة فِي طرابلس للاطمئنان على أوضاعهم، وتسوية بعض الاشكاليّات التنظيميّة، ووضع الترتيبات اللازمة لإشعال فتيل الثورة وانطلاق العمليّات العسكريّة ضدَّ نظام معمّر القذّافي. دخل هُو ورفيقاه علي محَمّد البشير حمّودة وعماد إبراهيم الحصائري إِلى الأراضي الِلّيبيّة عبر الحدود التونسيّة.
وفِي يوم 5 شعبان 1404 هجري الموافق 6 مايو/ أيار 1984م، وأمام أحدى الشقق التابعة لأمن النَّظام قرب محطة تاكسي بمدينة زوارة، تبادل الحاج أحمَد إحواس إطلاق النَّار مع قوَّات الأمن فاستشهد وأصيب الحصائري برصاصة فِي صدره تحت القلب فتمّ إلقاء القبض عليه أمّا علي حمّودة فقد تمكن مِن الخروج مِن المبنى سالماً وبعدها وصلت إليه قوَّات النَّظام فِي مكانه الجديد، فتبادل معهم إطلاق النَّار مجدّداً حتَّى تمّت إصابته برصاصة فِي كف يده الأيسر ورصاصة أخرى اخترقت مرفقه لتستقر فِي بطنه فنزف دماً ثمّ دخل فِي حالة أشبه بالإغماء فوصل إليه القتلة المجرمون فنقلوه إِلى المستشفى وأجريت له العمليّات اللازمة ثمّ بدأوا فِي التحقيق معه وبعدها نُقلوه إِلى المعتقل.
وبَعْد استشهاد أحمَد إبراهيم إحواس واعتقال رفيقيه، كان يوما الأحد والاثنين الموافق 6 و7 مِن شهر مايو/ أيار غامضين إِلى حدٍ كبير، وبعدما أذاع تلفزيون القذّافي يوم الاثنين ليلاً خبر قتل أحمَد إحواس والقبض على مرافقيه بعْد إصابتهما، قرر فدائيو مجموعة بدر (قوَّات جبهة الإنقاذ) المرابطون فِي طرابلس، التحرَّك ومفاجأة النَّظام. قرر الشباب الردّ على مقتل قائدهم ومثلهم الأعلى الّذِي أحبوه وربطتهم به علاقة متينة، وتلقين نَّظام القذّافي درساً لن ينساه بقلب العاصمة، ونقل صراع الشّعب الِلّيبيّ مع جلاديه وظالميه إِلى خانة جديدة، والإعلان المُسلح عن بدء معركة الشّعب مع نَّظام القذّافي الظالم المتخلف الّذِي أفسد الأخلاق وأهدر الأموال وأهلك الحرث والنسل، وقبل وصول قوَّاته الباغية إليهم. واندلعت المعركة بين قوَّات الطاغية وفدائيي الإنقاذ (مجموعة بدر) يوم الثلاثاء الموافق الثامن مِن مايو/ أيار 1984م. وبَعْد استشهاد أحمَد إحواس، وفِي اليوم السّادس مِن شعبان 1404 هجري الموافق السّابع مِن مايو/ أيّار 1984م، أصدرت الجبهة الوطنيّة لإنقاذ ليبَيا، بياناً صحفيّاً أكدت فيه على المعاني التاليّة:
أولاً: أن الاختيار العسكري كان ومَا زال أحد الاختيارات النّضاليّة للجبهة مُنذ بداية تأسيسها.
ثانياً: أن الجبهة وإن كان لها تحركاتها السّياسيّة والإعلاميّة السّلميّة خارج ليبَيا، فإن الأرض الِلّيبيّة هي وحدها ساحة المعركة العسكريّة مع القذّافي، فوق ثراها سوف يسوي الحساب – بإذن الله – مع القذّافي وشراذمه.
ثالثاً: أن الجبهة وهي تحرص على ضرب أروع الأمثلة فِي التضحيّة والبذل مِن أجل الوطن ومعركتها مع القذّافي وباطله، فهي حريصة أيْضاً على أن تقدم نموذجاً جديداً متفرداً فِي الريادة والقيادة حيث يحرص قادتها العسكريون على قيادة العمل العسكري بكلِّ مخاطره وتحدياته بأنفسهم فوق ثرى ليبَيا.
رابعاً: لقد آن لكل الأصوات التي تحاول أن تقلل مِن نضال شعبنا وجهاده وقدرته على البذل والعطاء والتضحيّة، لقد آن لكل الأصوات المتجنية، أن تصمت، وأن تسكت، وهي ترى أبناء شعبنا وهم يواجهون بطش القذّافي داخل معاقله ومعسكراته ذاتها.
خامساً: إن المعركة مع القذّافي ماضية ومستمرة، ولن تتوقف بإذن الله، إلاّ بعْد أن يتمّ إسقاط القذّافي وإحقاق الحق فوق أرض ليبَيا المجاهدة الصابرة.
وفِي اليوم نفسه، أصدرت الجبهة نعياً باسمها فِي المُناضل الشهيد أحمَد إحواس، أحد مؤسسيها ومفوضها العسكري وقائد قوَّات الإنقاذ.
وَمِن جديد، بعد أن سمع مجموعة الفدائيين خبر استشهاد أحمَد إبراهيم إحواس وإختفاء خالد يحيى، انتقلوا مِن المنزل الواقع بـ(منطقة الدريبي) وقرروا الانتقال إِلى مكان أخر. يقول الشّيخ علي محَمّد البشير حمّودة فِي مذكراته: “.. وقرروا الانتقال إِلى مكان آخر بعْد أن جهزوا أنفسهم لكل الاحتمالات وأعدوا قنابلهم التي جهزوها بأنفسهم بعْد إعدادها فِي ورشة حدادة، وعند الصباح الباكر انطلقوا إِلى شقة بإحدى عمارات شارع (الجمهوريّة) بطرابلس، وكانت خطتهم أن ينتشروا ولا يبقوا فِي مكان واحد، وعندما وصلوا المكان المقصود، ولم يتمكنوا – وبضرورات الاحتياطات الأمنيّة – مِن حمل كل مَا كان معهم مِن أسلحة حيث بقيت بعض بنادق أف إن (F.N) والذخيرة داخل السيارة.
حملوا مَا كان باستطاعتهم حمله مِن الأسلحة الخفيفة التي كان بالإمكان إخفاؤها كالمسدسات والغدارات (بريتا واسترلنق) والقنابل إلاّ أنهم فوجئوا بقوَّات الطاغيّة تطوق المكان عند حوالي العاشرة صباحاً والمتمثلة فِي قوَّات مَا يُسمّى بـ(كتيبة إمحمد المقريَّف) و(كتيبة الحرس) تحت إمرة خليفة حنيش القذّافي (تُوفي فِي مدينة ميونخ الألمانيّة يوم 17 مارس/ آذار 2012م).
وشاهدوا بعض العناصر الأمنيّة ومعها (الشهيد خالد علي يحيى) تتقدم وتدخل العمارة وتصعد إِلى الشقة وهُنا بادر الشباب بإطلاقِ النَّار وردت الكتيبة بقوَّة ناريّة وسقط أوَّل شهيد خالد علي يحيى وجذبه الشباب إِلى مدخل الشقة فأسلم الروح بين يدي أسامة السّنوُسي شلوف، وقام العارف المَهْدِي دخيل بإلقاء قنبلتين عند مطلع درج العمارة ممّا أدَّى لتقهقر قوَّات الطاغيّة وفتح ثغرة فِي الحصار وحينها نزل الشباب على دفعتين واستمر عارف دخيل فِي رمي القنابل، وقد أخبرني أنّه رمى ثمان عشرة (18) قنبلة فِي ذلك اليوم، وسقط الشهيد الثّاني مُصْطفى الجّالي بوغرارة فِي فناء العمارة تلاه مباشرة الشهيد محَمّد هاشم الحضيري، واستمرت المعركة الضارية بين قوتين غير متكافئتين، وكانت المدرعات تطلق نيران رشاشاتها (14.5) أو مَا تعرف محلياً بإسم (أربعطاش ونصف)، بكثافة بالإضافةِ إِلى قذائف أر بي جي واستمرت المعركة إِلى الساعة الثانيّة عشرة وسقط الشهداء فِي أماكن مختلفة حول العمارة: جمال محمود السباعي، عبْدالناصر عبدالله الدحّرة، سالم طاهر الماني، عبدالله إبراهيم الماطوني، محَمّد ونيس الرعيض، يحيى علي يحيى (أخ خالد) الّذِي وجد سيارة قمامة فركبها وقادها إلاّ أنهم أطلقوا النَّار عليه فقتل.
واستطاع بعض الشباب بعد المعركة الإفلات مِن قوَّات الطاغيّة وهم: عارف المَهْدِي دخيل وأسامة السّنوُسي شلوف وصالح حسين المؤدب وسالم عبْدالسّلام الحاسي وكمال أحمَد الشامي، إلاّ أنه ألقي القبض فِي نفس اليوم على عارف وأسامة، وبعد حوالي ثلاثة أشهر على صَالح حسين المؤدب (تُوفي يوم 24/9/2010م)، فيما تمكن الحاسي والشامي مِن النجاة ومغادرة البلاد بما يشبه المعجزة، أمّا الشهيدان: مجدي محَمّد الشويهدي وسَالم إبراهيم القلالي فكانا خارج المكان واستشهدا بعْد ذلك بأيام، سَالم القلالي بإحدى المزارع إثر معركة مع جند الطاغية، أمّا مجدي الشويهدي فاستشهد فوق عمارة بشارع النَّصر بعْد أن أطلق النَّار عليه المدعو سعد مسعود القذّافي..”.
وَالحَاصِل، بعْد استشهاد أحمَد إحواس، سقط فِي ميدان المعركة يوم الثامن مِن مايو (معركة باب العزيزية) ثمّ فِي مواجهات منفردة مع قوَّات النَّظام، أحد عشر (11) شهيداَ، وأُعدم بعْد تلك المعركة والمواجهات، تسع (9) مُناضلين على أعواد المشانق فِي مواقيت مختلفة ومناطق متفرقة مِن ليبَيا ، وتمّ نقل الإعدامات مباشرة فِي التلفزيون الرَّسمي للنَّظام. وعلى مدار شهر كامل، بث التلفزيون مقاطع مِن المحاكمات الصّوريّة التي أجرتها لجان القذّافي الثوريّة ومشاهد الإعدامات، بقصد إرهاب المواطنين وطبع صورة فِي أذهانهم لمصير مَنْ يفكر فِي مُعارضة النَّظام واتخاذ موقف ضدَّه.
هذا، وقد تناولت وسائل الإعلام ووكالات الأنباء، أحداث مايو، وعرضت ما تحصلت عليه مِن أخبار ومعلومات، كذلك نشرت بعض الجرائد والمجلات، حوارات مع بعض قيادات الجبهة وعلى رأسهم الدّكتور محَمّد المقريَّف الأمين العامّ للجبهة وقتئذ.
وقد نشرت – وعلى سبيل المثال لا الحصر – مجلّة: (الوطن العربي) التي تصدر مِن لندن وكان يشرف عليها الأستاذ وليد أبوظهر (المشرف العام)، ويرأس تحريرها الأستاذ نبيل مغربي (رئيس التحرير)، حواراً مطولاً مع الدّكتور محَمّد يُوسف المقريَّف، نُشر تحت عنوان: (المقريَّف يكشف للمرَّة الأولى قصّة باب العزيزيّة)، في عدد المجلّة رقم: (379) الصّادر بتاريخ 18 إِلى 24 مايو/ أيار 1984م. وأجاب الدّكتور محَمّد المقريَّف عَن السؤالين الخاصين: بالهجوم العسكري فِي الثامن مِن مايو أو مَا عٌرف بعمليّة (باب العزيزيّة).. فقدان أحمَد إحواس قائد قوَّات الإنقاذ والمفوض العسكري للجبهة ؟؟. فأجاب عَن السؤالين المذكورين بما يلي: “.. لمعركة باب العزيزيّة دلالات مهمّة. فقد أكد الهجوم إن المواجهة قد تجاوزت استخدام أساليب الصّراع الإعلامي والسّياسي إِلى اعتماد أسلوب الكفاح الشّعبي المُسلح. كمَا أن ذلك مِن شأنه أن يؤكد خيار (الجبهة) مِن أن ميدانها الأساسي والعملي هُو داخل الأراضي الِلّيبيّة نفسها.. لقد تجاوزت الجبهة بكثير مرحلة الخوف مِن مطاردة عناصرها داخل ليبَيا وخارجها.. إِلى مرحلة الاقتحام فِي الدّاخل. صحيح، أن العملية لم تحقق أهدافها كلها، ولكن هذا لا يعني الفشل، فنحن نرفض، ابتداءً، وصف العملية بالفشل. فلا يجادل أحد بأن العمليّة قد هزت النَّظام بأركانه وجسوره بشكل نحن على يقين بأنه سوف يسهل عمليّة تحقيق (الهدف النهائي) للعمليّة فِي مرحلة لاحقة، فأن السبب الرئيسي الّذِي حال دون ذلك فِي معسكر باب العزيزيّة هُو استشهاد الأخ أحمَد إبراهيم إحواس المفاجئ، الأمر الّذِي استتبع التعجيل بالهجوم على المعسكر قبل الموعد المحدد فِي الخطة الأصليّة. لا شكّ فِي أن فقدان الأخ العزيز الشّهيد أحمَد إحواس هُو خسارة عظيمة لنا، ليس لموقعه العسكري المتقدم فحسب، وإنّما أيْضاً لما كان يتحلى به مِن صفات قياديّة وتنظيمية فريدة، وَمِن أخلاق عظيمة. فلقد كان إحواس، رحمه الله، قمة فِي خلقه وفي تعامله وعطائه وتضحياته. أمّا خسارتي الشّخصيّة فيه، فهي تفوق الوصف. ومع ذلك، فعزاؤنا أنه فاز بالشهادة التي كان يتحرق إليها، بعدما ضرب أروع مثال فِي القيادة والرَّيادة. وعزاؤنا أيْضاً أن أبناءه وجنوده الّذِين دربهم وتعهدهم هم الآن أكثر استعداداً للبذل والعطاء وإنهاء المهمّة التي دخل مِن أجلها إِلى ليبَيا..”.
__________
المصدر: موقع مستقبل ليبيا