رجل من رجالات ليبيا

إعداد شكري السنكي

أحمَد إحواس فِي الكليّة العسكرية

تخرج أحمَد إحواس من الكليّة العسكريّة يوم التاسع مِن أغسطس / أب 1962م.. وتخرج الأستاذ إبراهيم عبْدالعزيز صهّد بعده بعام واحد فقط. ربطت الاثنان علاقة وطيدة، واستمر اللقاء بينهما فِي أمسيات الخميس رغم أن أحمد عمل بعْد تخرجه بسريّة هندسة الميدان الأولى فِي معسكر قاريونس فِي ضواحي مدينة بّنْغازي، وعمل صهّد بسلاح المخابرة فِي حامية مدينة المرج التي تقع شرق مدينة بّنْغازي وتبعد عنها حوالي 94 كيلو متر.

بدأ الاقتراب بين إحواس وصهّد بعْد استحداث نظام جديد فِي الكلية العسكريّة، تولّى بموجبه الطلبة الأوائل مِن الفصيل المتوسط فِي الكليّة العسكريّة، مراكز نواب أمراء حظائر الدفعة المستجدة التي كان إبراهيم صهّد أحد أفرادها.

دخل أحمَد إحواس إِلى الكلية العسكريّة فِي عَام 1960م وكان فِي (الفصيل المتوسط) ضمن أفراد الدفعة الرَّابعة، أمّا إبراهيم صهّد فكان فِي (الفصيل المستجد) ضمن أفراد الدفعة الخامسة. وشاءت الأقدار أن يلتقي الاثنان بعْد استحدث الكلية لنظام جديد، وأن يكتب الأخير عَن ذكرياته مع رفيقه بعْد استشهاده فِي يوم السّادس مايو/ أيار مِن عَام 1984م، فِي سلسلة نشرها فِي مجلّة الإنقاذ أسماها: (مِن وحي الذِّكريَات).

قال الأستاذ إبراهيم صهّد فِي ذكرياته: “ثلاثة دفعات.. الدفعة الثالثة هي الفصيل المتقدم الّذِي يقع على عاتقه عبء قيادة طلبة الكليّة.. والدفعة الرَّابعة هي الفصيل المتوسط.. والدفعة الخامسة التي تشكل الفصيل المستجد. كان أحمَد إحواس طالباً فِي الدفعة الرَّابعة التي يتكون منها الفصيل المتوسط بالكليّة. كُنت أنا إبراهيم عبْدالعزيز صهّد فِي الدفعة الخامسة.

شاءت الاقدار ان نلتقي أنا وأحمَد بالكليّة فقد استحدث بالكلية نظام جديد يتولّى فيه الطلبة الأوائل مِن الفصيل المتوسط مراكز نواب أمراء حظائر الدفعة المستجدة.. وكان فصيلنا قد قُسم حظائر.. كُنَتْ ضمن الحظيرة الثانيّة منها.. وكان أحمَد إحواس هُو نائب آمر الحظيرة التي اتبعها. والحظيرة هي أصغر تشكيل عسكري وتتكون عادة مِن عشرة أفراد.

وبالكليّة العسكريّة فإن افراد الحظيرة الواحدة يشتركون فِي قاعة المنام ويجلسون على مائدة واحدة، كمَا أن التدريب الأساسي يتمّ لكلِّ حظيرة على حدة.

هذا الوضع أدَّى إِلى أن يكون مقعدي فِي قاعة الطعام ملاصقاً لمقعد أحمَد.. وكان جاراً ليّ فِي قاعة المنام.. ولم يكن هذا بالأمر اّلِذي أحسد عليه إذ أنه يعني وضع مزيد مِن القيود على القدر الضئيل الّذِي يتمتع به الطالب المستجد مِن حريّة لوجودي المستمر بالقربِ مِن نائب آمر الحظيرة.. غير أنني وجدت نفسي سعيداً بهذا الوضع بحكم طبيعة أحمَد وأسلوبه فِي التعامل مع أفراد حظيرته.. فقد أصبحت فِي وضع يمكنني مِن الاستفادة مِن خبرته فِي التعامل مع الأمور اليوميّة التي تحدث بالكليّة.. ومِن أن أكون طرفاً فِي كثيرٍ مِن الأحاديث الخافتة التي كانت تدور بين أحمَد ونائب آمر الحظيرة الأولى الّذِي كان يقابله فِي مقعده بقاعة الطعام..

كان الحديث يدور عادة حول أحداث الكليّة اليوميّة.. أو عمّا يعتمل فِي صدور الطلبة مِن تطلعات وآمال.. أو عمّا يكابده الطلبة مِن جهد وعناء.. ورُبّما يدور الحديث عَن تاريخ المعارك التي جرت فِي بلادنا إبّان الحرب العالميّة الثانيّة.. وَفِي كثير مِن الأحيان تتشعب الأحاديث فتتطرق إِلى حيَاة البادية وقد أتفق أن ثلاثتنا قد عاش فِي البادية مرحلة مِن عمره والحديث عَن حياة البادية كان يجرنا بالضرورةِ إِلى أغاني (صوب خليل) التي كان يجيدها أحمَد ورفيقاه، وكُنَتْ أجهل عنها الكثير، ولازلت أذكر كم يكون أحمَد سعيداً ومنتشياً عندما تتسلسل أغاني (صوب خليل) لتتكامل معانيها.

كان التسابق بين نواب الحظائر يدور رهيباً لإثبات جدارتهم فِي مساعدة أمراء الحظائر.. وكان أحمَد غيوراً على أداء حظيرته لدرجة تجعله يبدو قاسياً فِي أحيان غير قليلة.. ولكن معاملته لأفراد حظيرته قد اتسمت بتكوين صلات صحبة ورفقة أكثر منها علاقة رئيس بمرؤوس، وقد كنا نحن أفراد الحظيرة نحرص على ألا نخذل نائب آمر حظريتنا أكثر مِن حرصنا على إرضاء آمر الحظيرة نفسه الّذِي كان يتميز بأسلوب عسكري جاف للغايّة.

مِن مهمات نائب آمر الحظيرة الاشراف على نهوضنا في الصباح والقيام بتجميع الحظيرة خارج قاعة المنام إستعداداً لتفتيش أمر الحظيرة على أفرادها، كمَا كان مِن مهماته أيْضاً التفتيش على حسن ترتيب كل طالب لفراشه ولأدواته.. وكان نظام الكليّة يقضي أن يتمّ هّذا كله فِي ظرف لا يزيد عَن خمس دقائق.. ورغم ذلك فقد كان أحمَد يحتفظ بهدوء كامل وهُو يُعد نفسه ليومه الجديد ويُشرف على أفراد حظيرته وهم يستعدون، ولم تكن هذه الميزة فِي أحمَد بسبب خبرته كطالب فحسب، وإنّما كانت بسبب كونه يتفرد عَن بقية طلبة الكلية جميعاً فِي خبرته بالحيَاةِ العسكريّة قبل أن ينضم إِلى الكلية، فقد كان جندياً بالجيش الِلّيبيّ، وكان يواصل دراسته الثانويّة فِي المدارس المسائيّة ثمّ التحق بالكليّة بعْد أن وصل فِي دراسته إِلى مرحلة تؤهله لذلك..

ومِن هذا فقد خبر الحياة العسكريّة كجندي ثمّ خبرها كطالب بالكليّة. وليس هذا الشئ الوحيد الّذِي كان ينفرد به أحمَد عَن بقية زملائه الطلبة، فقد كان أحد الطلبة القلائل المتزوجين وبدون شك فقد كان بعده عَن اسرته طيلة الاسبوع امراً قاسياً على نفسه، وإن لم أسمع منه – خلال أحاديثنا فِي قاعة الطعام – أيّ شكوى أو تضجر مِن هذا الوضع، والمرَّة الوحيدة التي أذكر انني رأيت فِي وجهه شيئاً مِن الكدر عندما صدرت عقوبة ضدّه تحرمه مِن الخروج مِن الكلية عطلة نهاية الاسبوع.

ورغم صلاتي هذه بأحمَد فقد كُنت أجهل أشياء كثيرة عنه – فِي ذلك الوقت – لم أكن فِي موقف يسمح لي بتوجيه أسئلة كثيرة، علاوة على أن أحمَد كان كثير الأسئلة عَن أفراد حظيرته، ولا أذكر مرّة واحدة – خلال جلوسنا على مائدة الطعام – لم يسألني فيها عَن أحد مِن أفراد الحظيرة.. ولم أكن أعرف أنّه أصلاً مِن قرية (جردينة) الصغيرة.. وكان يعرف أنني عشت طفولتي فِي أحضان الجبل الاخضر.. فِي (الفائدية) وفِي (لبرق)، وكان يسألني عمّا إذا كُنت أعرف إحدى العائلات التي تقطن فِي (لبرق)، ولم أعرف إلاّ مؤخراً بأنه على صلة قرابة بتلك العائلة. كان يتحدث عَن قرية (لبرق) حديث مَنْ يعرف القرية ويلم ببعض تفاصيلها.

وكانت مهمّة نائب آمر الحظيرة أيْضاً أن يشرف على أداء أفراد حظيرته فِي قاعات النوم والطعام وأن يتأكد مِن إعدادهم لأنفسهم للمنام بعْد نهاية الجمع المسائي.. وكان أحمَد يستغل تلك الفترة بين موعد النوم وبين الجمع المسائي لإعطاء توجيهاته ومُلاحظاته إِلى أفراد الحظيرة، وكانت تلك المُلاحظّات تأخذ صيغة التندر بالأخطاء التي يكون أحدنا قد إرتكبها، وكان هذا يزيد مِن العلاقات القائمة بين أفراد الحظيرة بعضهم بعضاً ومع نائب آمر حظيرتهم. لم يستمر هذا الوضع طويلاً.. فقد بدأت الإستعدادات تجرى لتخريج الدفعة الثالثة.. وكان هذا يعني تغييراً فِي وضع أحمَد وكان يعني أيْضاً تغييراً فِي طبيعة العلاقة القائمة بينه وبيني..”.

أحمَد إحواس ضابطاً

كان أحمَد إحواس مشهوداً له بالكفاءة والإنضباط والأخلاق العالية، وظلّ طيلة سنوات عمله بالقوَّات المسلحة مِن عَام 1962م إِلى عَام 1969م، يحظى باحترام وحبّ وتقدير رؤسائه ومرؤسيه. وكان ضابطاً متميزاً على كافة المستويات، وقد مكنته كفاءته والتزامه بتنفيذ كلّ المطلوب منه فِي الوقت المحدد، مِن الحصول على دورات تدريبيّة متقدمة وفي وقت قياسي فِي الولايّات المتَّحدة الأمريكيّة وبريطانيا بالإضافة إِلى دورات أخرى داخل البلاد.

عمل بعْد تخرجه فِي التاسع مِن أغسطس/ أب 1962م بسريّة هندسة الميدان الأولى فِي معسكر قاريونس فِي ضواحي مدينة بّنْغازي، وتقلد عدة مناصب بالجيش فعمل مدرساً بالكليّة العسكريّة ومدرساً بمدرسة الهندسة.

وفِي التاسع مِن أغسطس/ أب 1969م، رُقِي إِلى رتبة (رائد)، وبعد انقلاب الأوَّل مِن سبتمبر/ أيلول 1969م أحيل إِلى الإقامة الجبرية ثمّ سُرح مِن الجيش خوفاً من أن يشكل استمراره فِي المؤسسة العسكريّة خطراً على انقلابيي الفاتح مِن سبتمبر، مغتصبي السّلطة. كان يقوم بأداء المسؤوليّات المُكلف بها بكلّ دّقة وأمانة ونشاط وإخلاص.. ومنضبطاً فِي مواعيده وسلوكه وتصرفاته بشكل عامّ.. وحريصاً ﻋﻠﻰ ﻫﻨﺪﺍﻣﻪ وﻗﻴﺎﻓﺘﻪ العسكريّة.

وكان ضابطاً ناجحاً فِي الميدان، وفِي إدارة شئون جنوده والمسؤوليّات المُكلف بها. وحقق نجاحاً كبيراً فِى كلّ المناصب التى تولاها حينما عمل فِي بّنْغازي وبعدما نُقل إِلى طرابلس، والتي وصولها فِي منتصف عَام 1967م ليعمل فِي سريّة رحبة الميدان.

وَأَخِيْراً، كسب أحمَد إحواس حبّ واحترام وثقة رؤسائه، واتسمت علاقته مع الّذِين عملوا تحت أمرته بالتعاون والانضباط والاحترام ولم تكن علاقته بهم علاقة الرئيس بمرؤوسيه. كان أحمَد إحواس بطلا ً فِي الميدان العسكري والدّبلوماسي والنَّضالي بل بطلاً فِي كافة الميادين. لقد كان بطلاً حقيقياً.. والأبطال لا يموتون.

______________

المصدر: موقع ليبيا المستقبل

مقالات

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *