المناضل علي بشير يتذكر: مرافقة الشهيد في رحلة عودته إلى الوطن وملابسات استشهاده، وأحداث أخرى
هذه سردية أحد رفاق الشهيد الذين عبروا الحدود معه نحو الوطن، يحكي فيها تجربته مع مجموعة بدر وعن دخولهم إلى أرض الوطن وعن ملابسات استشهاد الحاج أحمد، وعن اعتقاله ورفيقه الآخر في تلك الرحلة، وعن تجربته في سجن بوسليم وغيرها من الذكريات.
بقلم علي بشير حمودة
الجزء السادس
ولا ننسى في هذا السياق أن نشير إلى أن عملية التوزيع للوجبات الثلاث هي لحظات كرب وبلاء؛ لها في غالب الحال ضحايا وعذابات، يدخل الحراس وسط حالة من الإزعاج والضجيج والعنف في فتح الأبواب والمعاملة مع الاستفزاز المقصود الذي يستخرج ردّة فعل تبرر استعمال الفقلة التي يسميها سفهاء الحرس (الحنينة) وتكون قريبة قد تمّ إحضارها تأهباً أو تنفيذاً لوعيدٍ سابق، فيكون توزيع فتات الطعام وتوزيع قناطير الانتقام، الذي يعلو معه صراخ المعذبين وعواء الجلاّدين شماتةً وسعادة بما يفعلون ، وحسرات وغصّة بقية السجناء الذين لا يستطيعون تجاوز الحدث لأنه يتعلق بآلام أخٍ لهم لا سيما إن كان زميلا لهم في الحجرة فيدخل زحفاً قد تورمت قدماه وسال الدم من وجهه وأطرافه ولك أن تتصور حال الوجبة وكيفية تناولها، وهي أمور متكررة طوال سنين السجن.
ولقد أخذت سياسة العزل والتجويع تنتج آثارها فصار شكل السجناء شاحباً والهزال واضحا لا يحتاج إلى قياس أو وزن وبدأ البعض يسقطون من شدّة الهبوط والإرهاق.
من المآسي التي تسجل هنا: أنّ إحدى نوبات (توكات) الحراسة بها اثنان شريران يوزعان الطعام ويضربان السجناء، أمّا أحدهما فاسمه جمعة (عجيلي) كل علامات الشرّ والشقاء ارتسمت عميقة على وجهه، عرف بين السجناء بعدّة ألقاب (طُولا في عرضا – الفلكس – جمعة كاويش) ولكاويش هذه قصة : ذات مرّة راق له أن يمازح رفيقه الذي معه فما كان من صاحبه إلا أن خلع حذاءه وقذفه به فأخطأت جمعة ووقعت في حلة طبيخ العشاء فاستخرجها بمغرفة التوزيع واستمر في عمله كأنّ شيئاً لم يكن بل مع الإعجاب والضحك والإشادة بمهارته، جمعة معه شقيّ آخر يبدو أنه من منطقته اسمه بريء منه (عبدالله الأمين) هذا الثنائي إذا دخل فلا بدّ في الأغلب الأعم أن يكون لهما ضحية، يأتي السجين وفي يده ماعون البلاستيك ويتقدّم نحو عربة التوزيع فيقول له [عبدالله الأمين] كيف شي قلت على عمك جمعة وعندها يثور عمك جمعة ثورة الثور، ويضرب المسكين ويُسمعه ما يكره.
ولا ننسى في هذا السياق أن نشير إلى أن عملية التوزيع للوجبات الثلاث هي لحظات كرب وبلاء؛ لها في غالب الحال ضحايا وعذابات، يدخل الحراس وسط حالة من الإزعاج والضجيج والعنف في فتح الأبواب والمعاملة مع الاستفزاز المقصود الذي يستخرج ردّة فعل تبرر استعمال الفقلة التي يسميها سفهاء الحرس (الحنينة) وتكون قريبة قد تمّ إحضارها تأهباً أو تنفيذاً لوعيدٍ سابق، فيكون توزيع فتات الطعام وتوزيع قناطير الانتقام، الذي يعلو معه صراخ المعذبين وعواء الجلاّدين شماتةً وسعادة بما يفعلون ، وحسرات وغصّة بقية السجناء الذين لا يستطيعون تجاوز الحدث لأنه يتعلق بآلام أخٍ لهم لا سيما إن كان زميلا لهم في الحجرة فيدخل زحفاً قد تورمت قدماه وسال الدم من وجهه وأطرافه ولك أن تتصور حال الوجبة وكيفية تناولها، وهي أمور متكررة طوال سنين السجن.
ولقد أخذت سياسة العزل والتجويع تنتج آثارها فصار شكل السجناء شاحباً والهزال واضحا لا يحتاج إلى قياس أو وزن وبدأ البعض يسقطون من شدّة الهبوط والإرهاق، وحقيقة أنّ الحديث عن الطعام والتغذية وإن كان يشغل بال بعض السجناء ويتحدثون عنه وعن كيفية معالجة الأمر فإنّ الغالبية لم يكن يهما الأمر وكانت تؤثر الصبر والاحتساب وعدم استخذاء قوم يفرحون بمظهر الخنوع والطلب والرجاء لأنه يعتبرونها نقلة نوعية في تفكير السجناء وأثر جيّد من آثار ونتائج السياسة المتبعة مع السجناء.
مع بداية سنة 1985م و نظراً للمشكلة التي أعانيها بسبب الفتحة في الجانب الأيمن للبطن واستعمال الأكياس والجرح الذي أعانيه مع الالتهابات فقد طلبت من الحرس ورقة وقلماً لكتابة طلب لإدارة السجن بخصوص الموضوع وأحضرت الورقة والقلم وكتبت الطلب الذي حمل إلى الإدارة وفي شهر فبراير نقلت إلى مستشفى الخضراء بطرابلس تحت الحراسة المشدّدة وكان المشرف على نقلي للمستشفى رئيس عرفاء قذافيّ قحصيّ أمّي عائد من المهجر بمصر يدعى محمد سالم، وكان فظاً متعجرفاً يضع نفسه طرفاً في القضية ويحذر الحرس من خطورة التهاون معي، ويحمل في يده (عدد اثنين قيد يد – كليبشات– وسلسلة كبيرة بها حلقة تقفل على الرجل) واشترط أن يكون وجودي في حجرة فردية لا يراني فيها أحد إلا الطبيب المعالج والحرس المرافق وكان ذلك مشكلة إذ لم تكن هناك حجرة خالية فأمر رئيس العرفاء بالعودة إلى السجن فوراً لكن الدكتور المشرف على علاجي – منذ بداية الأحداث– د. زيدان بدر الشريف تعاطف معي وتحرك بسرعة فتدبّر أمر الحجرة حيث قام بإخلاء إحدى الغرف التي وضعت بها، ومن المواقف الطريفة التي أذكرها في ذلك اليوم أنني في السنة الماضية وأثناء الأحداث كنت أرى ضابط شرطة هو المسئول عن نقطة أمن المستشفى يدعى الجليدي بشير من مدينة ككلة كان ينظر إليّ دائما من وراء زجاج غرفة العناية فإذا به هذه المرّة ينتهز انشغال الحرس ويندفع نحوي ليصافحني ويشدّ على يدي في تعبير واضح عن تعاطفه معي ودون أن يقول كلمة واحدة وطلب من الحراس الجلوس بمقرّ النقطة.
ووضعت على السرير ووضع القيد الأول في رجلي والثاني في يدي، فصرت لا أستطيع أن أحرك إلا رجلاً واحدة ويداً واحدة واستمر هذا معي مدّة شهرين وتسعة أيام التي قضيتها بالمستشفى، عدا بعض الحرس الذين يتركونني أحيانا دون قيد لبعض الوقت.
وأجريت لي التحاليل والاختبارات لعدّة أيام ثم أجريت لي العملية والتي استمرت حوالي ستة ساعات وشاء الله أن يكون النجاح حليفاً لها وعادت الأمور طبيعية ولله الحمد، واللذان أجريا لي العملية هما : الدكتور زيدان بدر الشريف والدكتور محمد فرعون، ومن المواقف التي أذكرها أيضاً أن دكتور التخدير كان مصرياً وفي أثناء إعداده لعملية التخدير وابتعاد الحرس أخبرته أنني سجين سياسي واسمي الحقيقي كذا – لأنهم وضعوا لي اسما رمزياً – وأنني أحد أفراد الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا وقد أصبت في معركة مع الأمن، فإذا بالرجل يتأثر لذلك ويعانقني على سريري، وتمضي الأيام ليخبرني منذ أيام السيد المناضل فايز جبريل عبر البريد الإلكتروني أنه يتابع أخباري وقد التقى طبيب التخدير المصري صدفة وحكى له الموقف.
وعقب العملية ونجاحها ومرور حوالي شهر على وجودي بالمستشفى تقرر عودتي إلى السجن، إلا أنني رأيت رؤيا عجيبة وللرؤى معي قصص غريبة قد يستغرب البعض اهتمامي بها لكنني لا أستطيع تجاوز ذلك فالرؤى والسجن أشياء مرتبطة، وأقسم بالله العظيم أنني رأيت ما سأقصه على القراء؛ فقد أخذتني سنة نوم عند القيلولة وإذا بي أرى أستاذاً مصرياً – أيضاً– اسمه سيد عبيد كان يدرّسنا مادّة التاريخ بمعهد القويري الديني، فسألني عن حالي فأخبرته قصتي وأنني بخير وأنني سأعود اليوم إلى السجن فقد اشتقت لإخواني هناك، ومللت هذه الوحدة والقيود، فقال لي: لا لن تعود إلا بعد أن تكمل شهرين وتسعة أيام ثم أردف بلغة انجليزية: تُو مانثس آند ناين دييز، فقمت من نومي متعجبا، وما هي إلا لحظات ويدخل الدكتور زيدان ليجري بعض الفحوصات النهائية وإذا به يفاجأ بوجود خرّاج كبير تحت الصدر مباشرة فيقوم بفتحه وشرع في تنظيفه بطريقة مؤلمة نظراً لعدم الحاجة للتخدير، واستمر ذلك الالتهاب حتى وصلت مدّة بقائي لشهرين وتسعة أيام.
من الأشياء الصعبة في المستشفى وجودي بين الحرس الذين يقيمون معي في الغرفة وهم في أغلبهم قوم سفهاء ألسنة بذيئة وتدخين مستمر وعجرفة مع أي إنسان يقترب من الغرفة لكن بعضا منهم لا يخلو من بقية خير تدركه من حين لآخر، أحد الحراس اسمه الشارف من ترهونة سألني ذات مرّة وكان لوحده في غياب زميله: يا عليّ ما سألتش نفسك أنت ليش هنا؟ وكان يقول بأسف وتأثر، فقلت له : لقد سألت نفسي وعندي إجابتي، لكن السؤال ليس هكذا، فقال لي : كيف؟ فقلت له : السؤال موجه إليك أنت ألم تسال نفسك أنت لماذا أنت هنا، فتأثر الرجل وتحسر وأشار إلى أنها بحكم العمل والعسكرية، وهذا الحرس لم أر منه إلا خيراً وكان يساعد السجناء إلا أنه لا يستطيع مخالفة الأوامر فقد أخبرني بعض السجناء وبناء على شهادة شهود رأوه يطلق نار مسدسه على من لم يزل به رمق حياة من ضحايا مجزرة أبي سليم سنة 1996م .
من الأشياء التي أسجلها هنا أيضاً وأنا أدوّن هذه الذكريات أنني كنت في الغرفة التي وضعت بها بمستشفى الخضراء أطلّ على مسجد علي بن أبي طالب – المعروف بمسجد (الكيزة)- وأطلّ كذلك على مدرسة ابتدائية كنت أرى طلابها يأتون كل صباح ويمضون يومهم الدراسيّ ثم يعودون مع ما يتخلل ذلك من استراحة ورياضة وغيرها، ثم جاء عطلة نصف السنة فتعطلت المدرسة أسبوعين عاد بعدهما التلاميذ للدراسة وذات مرّة في فصل الربيع خرجوا إلى نزهة – زردة– أخذتهم الحافلات صباح ولم يعودوا إلا عند المساء، كنت أرقب ذلك وأنا في قيودي لا أستطيع مغادرة سريري وغرفتي ولا يعلم أحد من هذا العالم المتحرك من حولي عني شيئاً وأقول : سبحان الله ! كم في الحياة من صور شبيهة بحالتي، وكم هي الدنيا صغيرة إلى هذا الحدّ ولعلي يوماً ما كنت في ذات الموقف دون أشعر به.
في مايو 1985م عدت إلى القاطع الرابع على شوق إلى رفاق المحنة وكان شوقهم إليّ أكبر فقد عدت إليهم من عالم آخر لأحدثهم عنه فأحدث لهم حراكاً جديداً يغالب هذا الواقع الصلد، فدخلت عليهم وكأنني لم أكن معهم وإذا بي أدلف إلى كهف مظلم تتراءى لك الأشباح فيه والمعالم شيئاً فشيئاً، وجلست إليهم هم يسألون وأنا أجيب بما حضر وأستدرك في بقية الأيام ما نسيت قوله، وجدت القوم قد تأقلموا مع الواقع لكنهم لم ييأسوا من رحمة الملك العلاّم، وها نحن في أول شعبان نستعد لشهر رمضان فشرعت على الفور – مع الضعف والهزال– في قضاء رمضان الماضي الذي فاتني صيامه نظراً لحالتي الصحية، فصمت شعبان كاملاً ولم يبق لي إلا يوم أو يومان، فمن يدري قد أغادر الدنيا في أي لحظة قضاءً أو على أيدي الجلادين الذين يتربصون بنا المناسبات التي تشفي صدر الطاغية، وجاء العيد وعشنا العيد رغم الألم وتداعت الذكريات وتحركت الكوامن وذرفت عيون الآباء الذين تركوا ذرية من خلفهم وبيوتا وأزواجاً وهذا هو العيد الثالث بين الجدران والحيطان، لكننا عشنا فرحة العيد رغم قساوة الموقف وانطلقنا في ذلك من فلسفة خلاصتها: أنّ العيد شعيرة تتعلق بالإيمان ولا تفقد معناها مهما ادلهمّت الخطوب واشتدّت المحن، وفي سبيل المبادئ والقيم والصدق مع الله والنفس والآخرين تهون العقاب والصعاب، صلينا العيد وتعانقنا وهنأ بعضنا بعضاً داخل الحجرة وخارجها عبر فتحة الباب وفتحات الجدار وهكذا فعلت بقية الحجرات وجمعنا ما بحوزتنا من كسر الخبز وبعض الزبد والمربى وشاهي يوم أمس وجلسنا في حلقة كبيرة بعد أن طوينا الفرش لنجد مساحة للجلوس، وتجاوز الكلّ قسوة ذلك اليوم وعاش فرحة العيد، أما الحراس فلم يأتوا إلا قرب الظهر ليدخلوا في جلبة وضجيج وهرج ومرج ويوزعوا وجبة الإفطار.
في شهر أبريل عام 1985م حدثت ثورة عارمة على الرئيس السوداني جعفر نميري عقب أزمة اليهود الفلاشا وانهيار تحالفه مع الحركة الإسلامية بقيادة الدكتور حسن الترابي وأثناء مغادرة النميري الخرطوم في زيارة إلى – الولايات المتحدة تقريبا– ازدادت حدّة الثورة ولم يفلح النائب الأول للنميري ورئيس جهاز أمن الدولة الفريق عمر الطيب في السيطرة على الأوضاع فتحرك الجيش بقيادة رئيس الأركان الفريق عبدالرحمن سوار الذهب وتولى زمام الأمور ثمّ سلّم السلطة إلى إدارة مدنية منتخبة بقيادة زعيم حزب الأمة الصادق المهدي، ودخل القذافي على الخط منذ بداية الأحداث وزار السودان حاملا أجندته الخاصة وعلى رأسها الشماتة والثأر والبحث عن خصومه الألداء أعضاء الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا وقد خيب الله محاولته فلم يفلح في الوصول إلى أيّ منهم لكنه لم يضفر بشيء إلا المعلومات التي سلمها جهاز أمن الدولة السوداني، وجاء الوفد الأمني من السودان إلى طرابلس وكان ضمن الأعضاء: الرائد حيدر أبشّر رئيس شعبة ليبيا في الأمن السوداني، والذي كان يتردّد على مكتب الجبهة بشارع الجمهورية بالخرطوم وربطتنا به علاقة وصلة قوية، وكنت شخصياً على صلة به ويزودني بآخر الأخبار عن القذافي وما يدور حوله – لنذيع بعضها في راديو الجبهة – فقد كانت للرائد حيدر عناصر تخترق ما كان يسمى بحركة اللجان الثورية السودانية التي يتزعمها عبدالله زكريا و كنت مذهولا من حجم الاختراق السوداني لأقرب دوائر القذافي، وجاء حيدر إلى طرابلس بأمر حكومته الجديدة ليؤدي ما بحوزته من مستندات ومعلومات.
وفي ثالث أيام عيد الأضحى سنة 1406هـ الموافق لـ 19 أو 20 أغسطس 1985م حوالي الثانية عشر ليلاً فتح باب العنبر وبعض الحجرات بالقاطع وتم اقتياد بعض السجناء : الدكتور عقيلة رشيد المجبري
ونوري الفلاح وأسامة شلوف وعماد الحصايري وفجأة وبينما كنت أهمّ بالنوم فتح الجلاد عبدالقادر التاورغي باب الحجرة ونادى على اسمي، قيدت يداي خلفي وربطت عيناي وقادني الحراس عبر الممرّ الرئيسي وخرجوا بي من باب السجن إلى الفناء المجاور للفلل الصغيرة المعدّة لاعتقال الضباط وهناك كان الصراخ يملأ المكان، وأمرت بالجثوّ على ركبتيّ انتظاراً للأوامر، وكان حجم التعذيب رهيباً وواضحاً من صرخات المعذبين وكان أحد الأصوات صوت امرأة، علمت فيما بعد أنها أخت الدكتور محمد يوسف المقريف الأمين العام للجبهة، وصوت الدكتور عقيلة الذي كان يتعرض لتعذيب بشع ترك عليه آثاره إلى اليوم، فقد اكتشفوا يومها أنه كان رئيس مكتب الجبهة في الخرطوم وأحد القيادات المؤسسة للجبهة، ولم يعترف قبل ذلك بشيء ولم يعترف عليه أحد، وكذلك السيّد نوري حميدة الفلاح رئيس المكتب بالمغرب الذي سلمته المغرب عام 1984م وجيء به في طائرة خاصّة مقابل تسليم القذافي أحد قيادات البوليساريو للمغرب، ثمّ جاء دوري وأدخلت على عصابة المحققين: خيري خالد وعزالدين الهنشيري والتهامي خالد وعمّار لطيّف وكان آمر السجن الجلاد عامر المسلاتي واقفاً وحين دخلت، ونتيجة الإعياء وقعتُ على كرسيّ التحقيق فانتزعني الشقي عامر وقال لي: أتجلس قبل الإذن لك يا قليل ……. وأخذ يلكمني بقبضته على وجهي وصدري فقال له التهامي خالد: خلاص خلاص ، ثمّ قال لي: صرفنا عليك عشر آلاف جنيه غير شكاير تعذية! وهذا جزانا ؟ ثمّ وجه كلامه لخيري خالد وقال له: كله منك، تعامل فيه معاملة ال… لو تطلقوني عليه تشوفوا المعلومات اللي داسهن! فقلت له لا شيء عندي ليست عندي معلومات حتى أخفيها.
وهنا أمروا بإخراجي فأخذني شخص جسيم (عبدالله بن صريتي) يلقبه السجناء بـ السوري، وكانت في يده قطعة كابل كهربائي فانهال عليّ بها ضرباً، لكن عامراً لم يعجبْه هذا الضرب وأراد زيادة التقرب أمام أسياده قال: شن هالضرب ؟! وانهال عليّ بسوطه ثم أخذني بكلتا يديه ( وكان عتلا شديدة القوة والبطش) وقذف بي من فوق السور الصغير للفيلا لأقع في الطريق الإسفلتي المجاور للمكان وقفز خلفي وصار يركلني وأنا أتدحرج أمامه كالبرميل الفارغ، حتى جاءه أحد الحرس ليقول له : راهو طالع من عملية وبطنه ما زالت امخيطة، فقال: إن شاالله يموت، لكنه كفّ لأنّ الحرس كان مبعوثاً من العقيد خيري، ثمّ وضعت في غرفة خالية بها فلقة وأدوات التعذيب وقال لي (بن صريتي) آهي اتشوف فيها وإلا لا؟ اعترف خيرلك، فقلت له : ما عندي شي واضرب كان بتضرب، وبقيت على هذه الحال مدّة طويلة اقتادني بعدها الحرس إلى قاعة كبيرة لأجد خيري خالد وبجواره عامر المسلاتي وقد انفض جمع المحققين، فقال لي خيري: اجلس وقال: كيف اندير معاك؟ آهو اتشوف فيهم شي يديروا وغدوة جايينك، اعترف خيرلك، فقلت له: بماذا سأعترف؟ فقال لي: من هو الضابط اللي في القيادة؟ فقلت له : هل تتوقع أن يقولوا لفرد مثلي عن سرّ مثل هذا؟ أنت ضابط وتعرف، فقال لي اذكر أي اسم، قوللهم أي شي، قلت له سأذكر اسمك، فقال لي كيف؟ فقلت: من سأذكر وأنا لا أعرف أحداً، فقال لي : عليش عابي أنت؟ وهنا تدخّل عامر وقال: إيراجي في المقريف إيجي، توّا إيجي، والله لو نشموها شم نصلوكم (الصلي بالرصاص) من أولكم لا آخركم، فقلت له: الأعمار بيد الله، وقلت في نفسي وكدت أُسمعه : من يدري قد يعود المقريف وتتغير الأوضاع، وأحسست بشعور من الثقة والتفاؤل في تلك اللحظة التي لا أحسد عليها، وسبحان الله! تمضي الأيام ويموت الاثنان خيري ومن بعده عامر بعد أشدّ المعاناة “وليقضي الله أمراً كان مفعولاً” و للضابط الذي يبحثون عنه قصة، فقد التقط حيدر كلمة من أحد أعضاء الجبهة يتحدث مع عضو آخر حول معلومة ما فسأله زميله: هل المعلومة مؤكدة؟ فقال له مائة بالمائة والمصدر ضابط من داخل القيادة بباب العزيزية، ولم ينسها حيدر فأدلى بها لتحرك القضية من جديد، ولا شك أنه تبرع منه زائد عن الحد المطلوب منه، ثمّ نادى عامر على عبدالقادر التاورغيّ وقال له: “شوفولا شيلا” أي ضعه في الانفرادي، فأخذني الحرس، ولما لم يجدوا زنزانة انفرادية شاغرة بحثوا عن حجرة ليضعوني فيها منفرداً، وفي الطريق سألت عبدالقادر: أذنَ الفجر؟ فأبى أن يجيبني ثلاث مرات ثمّ قال لي – ممتعضاً– : مازال، وضعوني في الحجرة (5) بالعنبر رقم (1) و كانت الحجرة مظلمة لا يمكنك أن ترى فيها شيئاً، فوقعت على الأرض منهكاً اشتدّ ألمي وتعبي، وغلبني نوم عميق وفجأة سمعت صوت سجين يؤذّن لصلاة الفجر، فقمت أتحسّس طريقي إلى الحمام فتوضأت وصليت وهنا فوجئت بشيء لم أشعر به حين دخلتها لأول وهلة! كانت الحجرة مليئة بالفئران الكبيرة (القناطش) وكان العدد كبيراً – بالعشرات– ومع إضاءة الصباح وجدت ركن الحجرة مليئاً بـ فرش النوم المخزنة والتي وجدت فيها (القناطش) خير ملجأ وملاذ، كما أن بعض هذه القوارض كان ميتاً ومتحللاً، وكانت حركتها لا تهدأ، وهي شيء مخيف ومقزّز ولها جُرأة عجيبة، واكتشفت أنها تخرج من بالوعة المرحاض وتجري في الحجرة وهي تقطر ماءً طول طريقها، و كنت أهبُّ من نومي لأجد إحداها تتحسس أنفي وأخرى بين قدمي، ولا تدع لي شيئاً من التموين، وكانت مشكلة حقيقية، ومعضلة لم أواجه مثلها في حياتي، وكان الحرس سعداء بذلك لا يبالون بأيّ احتجاج أو طلب تغيير وقد سمعت أحدهم يقول لسجين يعاني نفس المشكلة (احمد ربي عندك من يونسك) والعجيب أن الأمر آل إلى واقعية أغرب من الخيال، فقد تعايشت مع هذا الواقع وبقيت أكثر من شهر على هذا الحال، حين جدّت إحدى القضايا العسكرية (النقيب فرج التيح) الذي خطط لقصف مقرّ القذافي بصواريخ (17 R ) وجيء به وبأعضاء حركته إلى أبوسليم فأخذوا الفراشات التي كانت بجواري وقلّت حركة القوارض.
تمكنت من فتح الحفرة بيني وبين الحجرة المجاورة لي (رقم 6) وفيها وجدت الدكتور عقيلة المجبري، الذي تعرّض لأشنع طرق التعذيب وكان الرجل مريضا يعاني أشدّ المعاناة ويشكو آثار التعذيب و لا شيء يستقرّ في معدته، والحرس لا يبالون بشكواه، فقال لي هل يمكنك أن تحصل لي على فيتامين؟ فقلت له: سأحاول، وتمكنت من الخروج إلى العيادة بقدرة قادر وتحصلت على علبة فيتامينات، فأعطيتها له، وكانت سبباً في راحته من بعض آلامه ووجد بها شيئاً من المقاومة والقوة الجسدية، وصرنا نتحدث كل يوم عبر الفتحة حيث سألته عن كل شيء بخصوص الجبهة وكان الرجل يجيبني ويطلعني على كثير مما لم أكن أعرفه.
في الحجرة (7) المجاورة للدكتور عقيلة يوجد سجين اسمه عبدالقادر (نسيت بقية اسمه) قضيته حزب التحرير الإسلامي ونتيجة المعاملة السيئة وظروف السجن كان هذا الرجل يعاني حالة نفسية جعلته في حال الذي لم يعد له شعور أو اكتراث بأيّ شيء وهي إحدى حالات عديدة، كما كان في القاطع مجموعة من السودان أتباع الطريقة التيجانية لا أدري ما سرّ اعتقالهم، كما جيء بمجموعة من طلبة جامعة بنغازي، قالوا إنهم سجنوا بسبب اللجان الثورية، وضعوا في الزنزانة رقم (10) المقابلة لزنزانتي وكان معهم شاب سوريّ اسمه عبدالكريم درويش – على ما أذكر– وبعد أيام أعلنوا الإضراب عن الطعام وكنت أتحدّث معهم ليلاً وأمدّ لهم بعض الأشياء، وذات يوم جاءهم عامر آمر السجن ودخل في نقاش معهم – على طريقته– كانوا يحتجون بأنهم لا تهمة موجهة إليهم ولا يصح حبسهم، وكان هو يبرّر سجنهم ثم تكلّم السوري فقال أنا سوريّ وهنا فاجأه عامر بردّ حاسم جعل المسكين يرتبك ولم يعد يجد ما يقول : قال له عامر: “ما فيش فرق احنا قوميين عرب” ثم قاموا بتوزيع هؤلاء الشباب على قواطع أخرى وسمعت أنه تم إعدام بعضهم.
…
يتبع في الجزء السابع
_______________
المصدر: قناة غريان الحرة (2013)