المناضل علي بشير يتذكر: مرافقة الشهيد في رحلة عودته إلى الوطن وملابسات استشهاده، وأحداث أخرى
هذه سردية أحد رفاق الشهيد الذين عبروا الحدود معه نحو الوطن، يحكي فيها تجربته مع مجموعة بدر وعن دخولهم إلى أرض الوطن وعن ملابسات استشهاد الحاج أحمد، وعن اعتقاله ورفيقه الآخر في تلك الرحلة، وعن تجربته في سجن بوسليم وغيرها من الذكريات.
بقلم علي بشير حمودة
الجزء الخامس
يوم الثلاثاء ثالث يوم لي في السجن وعند المساء فتح الحرس باب الزنزانة وطلب مني الخروج بعد ربط عينيّ، وصعد بي الدرج وأدخلت إلى المكتب الرئيسي، فوجدت العقيد خيري خالد ومعه سكريتره علي (الحرّ) الترهوني، وضابط آخر برتبة عقيد يُدعى أحمد نقاصة، ونقاصة هذا والعقيد المصباحي (الذي قتله ابن أخيه نهاية الثمانينيات) هما المسئولان عن كامل ملف قضية مايو 84، ومعهما كل أسرار القضية والتحقيقات، ووجدت في المكتب إخوتي ورفاقي : أسامة شلوف وعارف دخيل وصالح المؤدّب (رحمه الله) الذين قاموا لاستقبالي فسلّمنا وتعانقنا وتبادلنا نظرات اختزلت ما كان وما قد يكون من أمر الله، فامتعض خيري والشقيُّ الذي كان معه وقالا: لا لا ممنوع السلام، فما اهتمّ أحد منّا بهما، وجلست على أحد الكراسيّ، وكنت في غاية الإرهاق فسألني خيري خالد وهو ينفث سيجارته وبلهجة متعالية : آه كيف حالك؟ فقلت بعفوية: الحمد لله، فانتفض وقال: الحمد لله عليش؟ على شبابك ومستقبلك إللي ضيعته؟! فلم أزد شيئاً وإنما اغتنمت مع إخوتي تلك اللحظات التي ما كنا نحلم بها ولا ندري ما سيكون بعدها، هل سنلتقي أم “أن لا تلاقيا“، وهنا تدخل الشقي (نقاصة) الجالس جوار خيري واندفع في حديث استفزازي وبطريقة سيّده الطاغية، وطفق يخوض في مسائل لا ليؤهله لأن يتحدث فيها سوى الوقاحة وسوء التربية والخُلُق ثمّ قال : وين الشيخ؟ وكان يقصدني، وبدأ يسأل بأسلوب عسكريّ استفزازيّ عن الدّين والسنّة والتجارة والربح والأجرة و و و… ثمّ وجّه السؤال لي فقال : بأيّ حق يبيح محمّد (يقصد نبينا الأكرم) دمي؟ الله يقول: اجلدوا وهو (يعني رسول الله) يقول: ارجموا! وكم عجبت و استغربتُ هذه الجرأة على الله ورسوله، ولكن إذا عرف السبب بطل العجب فهو يردد حرفياً عبارات سيده الطاغية الذي يعبده ويتملقه.
واستمر: “وين الرجم منين جبتوه“؟ فقلت له: هذه مسألة يعرفها العلماء والأمر يتعلق برواية الحديث و..، لكنه قاطعني ووجه القول لي ولرفاقي وقال بالحرف: “اسمع كان دينكم يبيح التجارة والربح والأجرة فأنا (يقصد نفسه) طالع منه“، وهنا قال خيري وبلهفة وسرعة: “أنا ما خشيتاش “، فقلت لا حول ولا قوة إلا بالله وعلمت أنني أمام قوم مردوا على الضلال والجرأة على الدين والقيم، وأننا على حق في مواجهتهم ومقاتلتهم، ثم قال خيري : أنتم تعبدوا فـي محمد أكثر من الله، فقلنا كيف؟ فأراد أن يعطينا الدليل على ذلك: قال : (الله) ثم سكت ، وبعد قليل قال : محمد فقلنا: “صلى الله عليه وسلم“، فقال: ” آهو لما قلنا الله ما دواش حد، ولما قلنا محمّد صليتو عليه” فقلت: لقد سألنا الله أن يصلي عليه، لكن الشقيين طبع على قلوبهما ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وانتهى اللقاء وأعيد كل منا إلى زنزانته، وبقيت على هذه الحال لمدّة شهر أخذت بعدها إلى القاطع أو العنبر المقابل (2) ووضعت في الحجرة الثالثة أو الرابعة وهنا كانت المفاجأة فقد وجدت أمامي أخوين اثنين لم يسبق لي لقاء أو معرفة بهما الدكتور علي بن عروس البوسيفي وعبد الحفيظ دبيش البرغثي، وتغير الحال نوعا ما وسرعان ما تعارفنا وتبادلنا مخزون الأخبار وما جرى مع كل منا : قصة القبض والتحقيقات وغيرها، وتواصلنا مع بقية السجناء المجاورين لنا ، الدكتور علي بن عروس متخصص في مجال الذرّة وقد انضم مبكراً لصفوف الجبهة وكان في أول دفعة تدريب عسكرية بالسودان ثم عاد للبلاد في أوائل سنة 84م وألقي القبض عليه في الأحداث مباشرة وقد رشح اسمه للإعدام إلا أنّ قبيلته أولاد أبو سيف رفضوا إعدام ابنهم وهو زوج لأمريكية أسلمت وكابدت معه ظروف المحنة وعاشت مع أهله في مدينة مزدة النائية ورفضت الخروج مع استطاعتها وإلحاح زوجها وكانت غايتها أن يتربّى ولداها محمّد وأحمد إلى جوار جدودهما وأعمامهما و يرتبطا بالدّين والأهل والوطن.
أما عبد الحفيظ دبيش فكان ضمن جماعة الإخوان المسلمين التي كانت ضمن مؤسسي الجبهة وقد تدرب بعض عناصرها في السودان إلا أنها انسحبت وانسحب شبابها عقب خلافات مع قيادات الجبهة، الإخوان يقولون إنّ قيادات الجبهة أخلّت باتفاقها ودخلت برنامجا يرفضه الإخوان لا سيما في تلك الفترة التي كانت فيها آراء الإخوان لم تتضح بعد فيما يتعلق ببعض القضايا والتعامل السياسيّ، وقادة الجبهة يقولون إنّ الإخوان كانت فكرتهم الدخول والاحتواء فلما لم يستطيعوا ذلك انسحبوا، وحدثت مواجهات نالنا شيء منها ومن آثارها في السجن إلا أنّ العلاقة بيننا داخل السجن وحتى بعده بقيت طيبة ، وأنا وإن لم أنضمّ إلى جماعة الإخوان المسلمين إلا أنني لا أشعر إلا ببعض الاختلافات التي لا تفسد للودّ قضية كما يقولون، وتربطني بالإخوان صلات ودّ وتقدير واحترام.
وأعود إلى السجن وإلى العنبر الثاني، حيث أمضينا كثلاثيات شهراً على هذا الحال، ثمّ حدثت في بداية أكتوبر حركة غريبة في العنبر و بعد الرصد والمراقبة تبيّن أنها عملية نقل جديدة، ودمج للتصنيفات السابقة: (أ ب ج د) وفعلا فتح علينا الباب وربطت أعيننا ونقلت مجموعة زنزانتنا إلى القاطع الثالث وتحديداً إلى الزنزانة رقم (7) ووجدنا أمامنا سبعة سجناء: الدكتور عمران التربي (طبيب أسنان) والدكتور عبدالمنعم النجار (أستاذ جامعي انتقل إلى رحمة الله عقب الإفراج عنه) و ونيس العيساوي، وسعد الجازوي، إبراهيم الهوني، المبروك اللافي (التونسيّ الذي كان دليل رحلة دخولنا) محمّد الجرنازي، فصار عددنا عشرة وهكذا بقية الغرف عشرة سجناء من الغرفة 1 إلى 8 أي ثمانون سجيناً في العنبر الثالث أما بقية الغرف الست الباقية فكانت خالية تنتظر وصار معظم سجناء (قضية الجبهة) موزّعين على العنبرين الثالث والرابع، عدا بعض قليل كانوا في الانفرادي (الشيلات) الأخطر تهمة في الثالث يليهم نزلاء القاطع الرابع.
وسرعان ما حدث التعارف والاستخبار والإخبار، وسعدنا كثيراً بوجود مصحف مع المجموعة التي دخلنا عليها مما جعلنا نواصل الرحلة مع كتاب الله والتي لم تنقطع منذ ذلك اليوم، وكانت معاملة الحرس وإن خفت وطأة التعذيب قليلا إلا أن القسوة والإهانة والتهديد والوعيد والضرب لسبب ودون سبب والفتح المباغت والمتكرر للكوّة والباب ظلّ نمطا سائدا ووفق منهجية وأوامر يجتهد الحرس ويتفننون في أدائها، إلا أننا – السجناء– كنا في عالم آخر لا تطاله إرادة السجّان ومناهج الحقد والانتقام.
الأغلب مشغولون بحفظ كتاب الله وبحلقات علم ومدارسة مختلفة حول قواعد التجويد والتفسير مما لدى كل منا حيث لا كتب ولا مصادر إلا مخزون الذاكرة وكذلك الاستفادة من تخصصات الإخوة –العلمية– وهي عالية ومنوّعة، الأمر الذي جعل الوقت مشغولا من الاستيقاظ إلى المبيت، وكان وجود الدكتور عمران التربي معي رحمة من عند الله كان رجلا بشوشا ذا دعابة ومزاح حاضر البديهة وهي أمور لا يتصور المرء قيمتها في تلك الأجواء الكئيبة الملبدّة بغيوم اليأس ونذر المستقبل لدى كثير من السجناء، وقد أولاني – د عمران– عناية واهتماماً كأخ وطبيب نظراً لحالتي الصحية الصعبة بسبب وجود تلك الفتحة في جنبي الأيمن وكم كان وبقية الزملاء يتحملون فظاظة ورعونة الحرس عندما يطلبون لي منهم الدواء والأكياس التي أستعملها وتنفد مني.
مع أواخر شهر أكتوبر1984م حدثت حركة كثيرة في السجن استمرت لعدّة أيام أبواب تفتح وتغلق وأصوات وجلبة وأشياء تجرّ على الأرض ولم نك ندري ما يدور أهي اعتقالات جديدة أم تنقلات وتغييرات؟ حتى أحضروا مجموعة وزعوها على الحجرات الخالية في القاطع الثالث الذي نحن فيه وبسرعة جرى أول اتصال فعرفنا أنهم سجناء ليبيا السياسيون سجناء (الحصان الأسود وهو سجن بناه الإيطاليون وأسموه: بورتا بنيتو ووضعوا أمامه تمثال حصان أبيض ولما جاء الانقلابيون غيروا طلاء الحصان إلى أسود) وصرنا نطلق عليهم فيما بيننا (جماعة الحصان) الذين كنا نسمع عنهم من قبل دخولنا السجن وعرف بعض السجناء بعضهم البعض، إخوة و أقارب و أصدقاء و أبناء مدينة واحدة، وضعت هذه المجموعة إلى جوارنا ووزع البقية على القواطع الأخرى وهي قضايا سياسية مختلفة مدنية وعسكرية تتوزع على سنوات مختلفة، ففي القاطع رقم (1) وضعوا المحكومين بالإعدام والمؤبّد، وفي القاطعين الخامس والسادس وضعوا أصحاب الأحكام التي تلي المؤبّد أما القاطع الثاني فهو عنبر البراءة وهو تصنيف عجيب غريب وكما قال الرائد – في ذلك الوقت– عمر الحريري : “عمري ما سمعت سجن فيه عنبر براءة إلا فـ ليبيا“.
وكان عدد من جيء بهم من الحصان الأسود فوق الثلاثمائة سجين والقضايا كما سبق وأن قلت تعود لأعوام مختلفة بعضها إلى سنة 69م قضية المقدّم آدم الحواز والمقدّم موسى أحمد رحمة الله عليهما (أعدم الحواز مع بعض السجناء أثناء أحداث مايو 1984م بينما قتل موسى أحمد سنة 2005 على أيدي أفارقة بمزرعته) كذلك قضية الأبيار سنة 70م على رأسها أحمد الزبير السنوسي، والتي ضم إليها ما عرف بجماعة فزان التي كان من أشهر عناصرها الساعدي ابن (البيّ) محمّد سيف النصر ومحمد المهدي، وكذلك سجناء سنة 73م سجناء الفكر عقب خطاب معمر في مدينة زوارة وأشهر هؤلاء أعضاء حزب التحرير الذين بقوا طويلا وانصبّ عليهم جامّ غضب الطاغية، وكذلك بعض اليساريين وقضية حركة أغسطس 75م العسكرية المرتبطة بالرائد عمر المحيشي، وأحداث الطلبة في بنغازي 75- 76م، وقضية ادريس الشهيبي سنة 1981م وفي نفس الفترة أو ما يقاربها قضية سوق الرويسات ببنغازي 81م والتي كان مخططها قتل معمر عند افتتاحه لهذا السوق وعلى رأس هذه المحاولة النقيب طيار فتحي الشاعري وضمن المجموعة الشيخ الدكتورعليّ الصلابي (الطالب في ذلك الوقت) والعسكري عبد السلام الشلتات، وكذلك قضية عسكرية عرفت بقضية (المقارحة) أشهر عناصرها سعد نصر المقرحي و بلقاسم عويدات المشاي والنقيب جمعة قنّص العجيلي و محمد الشبّاح من مصراتة.
هناك أيضاً قضية (الرابطة) رابطة المغرب الإسلامي عناصرها من الأمازيغ 81م البعض يراها تنظيما عنصرياً متطرفاً مضادّا للعرب ولما جاء به العرب وعلى صلة بأجندة خارجية، والبعض يرى أنّ ذلك من تلفيقات أجهزة عهد الطاغية وهي لا تعدو كونها تعبيراً عن ثقافة وعرق في إطار الوحدة الإسلامية والوطنية، والحقيقة أنني لم ألتق بعناصرها ولم تتح لي فرصة للفهم منهم وعنهم مباشرة ومن ثمّ الحكم عليهم إلا أنني أذكر أنّ زعيما لهذه المجموعة التقى سنة 88م بالأستاذ سعود المنصوري وهو من مدينة زوارة سُجن سنة 73م ثم في قضيتنا 84م لعلاقته الحميمة بأحمد حواس رحمه الله، قال لأحد رؤوس ذلك التنظيم وهو أمازيغيّ مثله إلا أنّ الحاج سعود رجلٌ الإسلام دينه وثقافته وانتماؤه : “قالوللي داير تنظيم وتُكّر فـ الناس لجنهم” هناك أيضاً بقية مجموعة الشيخ الشهيد محمّد البشتي رحمه الله منهم الشيخ الفاضل محمّد الحاراتي وما تلى ذلك وما تخلله من قضايا فردية وصغيرة، وغير ذلك مما لا أستطيع الإحاطة به، وعلى الفور حدث التواصل والاتصال وكان مجيء القوم سبباً في إمدادنا ببعض الأشياء التي لا يمكننا الحصول عليها بسبب العزل ومنع الزيارة وأهم ما حصلنا عليه المصاحف وبعض الكتب وبعض أجهزة الراديو (موجة واحدة) ولم يدّخر الإخوة وسعاً في مواساتنا وإيثارنا على أنفسهم، لأنهم هم أنفسهم مُنعوا من الزيارة وما لديهم لم يعد كافياً لهم حتى في الحدّ الأدنى، ومن الأمور الملاحظة في السجن أن التقاء السجناء في القضية الواحدة أو من القضايا المختلفة أو الإتيان بسجناء جدد يحدث حراكاً في وسط راكد وحالة تنعكس ببعض إيجابياتها على السجناء عموماً مع ما يصاحبها من الأسف والإحباط بسبب فشل المحاولات في مهدها.
جاء سجناء الحصان الأسود وجاء معهم طاقم الحرس الذي كان يتولى سجن الحصان الأسود، وكان هؤلاء الحرس نموذجاً للقسوة والتجرد من كل المعاني والقيم التي أودعها الله في البشر عموماً وعلى رأس هؤلاء ضابط شرف معروف برتبة رائد في ذلك الوقت عامر بنّودة المسلاتي، الذي بدأ حياته واختتمها بمذبحتين أهّلته أولاهما لأخراهما ولما كان بينهما، عقب نكبة حزيران يونيو سنة 1967م كانت ردّة الفعل العاطفي ضد اليهود في الدول العربية عنيفة، فخرجت المظاهرات وأحرقت متاجر ومخازن وممتلكات اليهود في طرابلس وبنغازي، إلا أنّ الشاويش عامراً هذا وبعض شركائه اختطفوا عائلة يهودية ليبية واقتادوها إلى الخلاء – منطقة البوسكو– وذبحوا أفرادها وقطعوا أطرافهم، وألقى القبض عليهم وحكموا بالسجن، إلى أن جاء الإنقلاب العسكري سنة 69م فأفرج عنه وأعطي فرصة ليكفر عن سيئاته ويستفيدوا من قسوته وخبرته في سجن و ذبح الليبيين فكان عامر أحد أبطال مذبحة أبوسليم التي قضت على ألف ومائتي سجين ليبيّ أعزل، وكانت الأوامر لهم صريحة بمعاملتنا (قضية 84م) معاملة خاصة، متميزة عن بقية السجناء وكانوا فعلا عند حُسن ظنّ من اختارهم وكلّفهم، ولم يكن السجّانون الأولون ليحمدوا لكنهم لم يكونوا سجناء محترفين، فهُم ومع قسوتهم كان الفرق واضحاً بينهم وبين جلادي الحصان الأسود الذين احترفوا وامتهنوا إذلال وترويض وتعذيب السجناء وأشربوا في قلوبهم القسوة وانتزعت من خصائصهم ومكوناتهم بقية الخير إلا قليل منهم لا يذكر ولا يؤمن جانبه لجبنه وتقلبه، وتمت عملية التسليم ما بين الفريقين، وكنت من ضمن ما تبادلوا تسليمه نظراً لحالتي الصحية وتمّ ذلك وسط أجواء من التهكم والوعيد المبطن والمعلن.
وجاءت المجموعات (التوكات) الجديدة: ثلاث مجموعات كل مجموعة تداوم أربعاً وعشرين ساعة وترتاح ثمانية وأربعين ساعة، الأولى برئاسة صالح سلطان قذافيّ وهو الأرجح وقيل بل وليديّ من منطقة أبونجيم ومعه من تاورغاً مسخ يدعى عبدالقادر كرُنّة أو كرونة، وهذا المخلوقان ما رأيت أسوأ منهما في حياتي ولا أظنني سأرى مثلهما، و لا أظنّ أن سجيناً سيخالفني الرأي في هذا، والثانية برئاسة ضو علي (ورفليّ) ومعه ابن عم له يدعى محمد الغناي، وضو هذا سجان محترف لا يعرف من دنياه وآخرته ولا يهمه شيء في حياته إلا تنفيذ أوامر إدارة السجن حرفياً وبإشرافه الشخصيّ وهذا الرجل ومجموعته تلقوا دورة خاصة في تنفيذ أحكام الإعدام، وعمليات الإعدام وتهيئة السجناء لها كانت تتم في نوبته، والثالثة برئاسة محمد الغناي – قتل هذا الشقيّ في حادث سيارة– فآل قيادة المجموعة إلى عبدالله بن جريد (من ترهونة) وهذا الرجل فيه ما فيه وإن كان أخيراً لا خير فيه، ومع هؤلاء رجل أسود البشرة يدعى نوري عبدو – هكذا ينادونه– (من سكان طرابلس) خبيث اللسان عهد إليه ملف الصحة، وللحقيقة فإن هذا الرجل فيه بقية خير مع بذاءته التي لا حدود لها، أذكر أنه أخذني إلى العيادة وقال لي (هناك) : أنا راجل مهمتي إنسانية ولا دخل لي بمشاكلك معهم، وفي العيادة وجدت طبيبا إيطاليا لم يطل بقاؤه حتى جيء ببيطري بنغلاديشي يعرفه غالبية السجناء.
بقينا في القاطع الثالث إلى يوم 5 ديسمبر 1984م حيث بدؤوا بإخراجنا حجرة حجرة إلى القاطع المقابل (رقم 4) لتبدأ المعاناة في هذا القاطع الذي خُصّ بأوامر عليا ليكون نموذجاً للعزل والتنكيل والإهانة والإذلال والضرب المبرّح، ولا حاجة في الضرب، لسبب فوجودنا فيه سبب كاف ومبرر لأيّ تعامل على النحو المبين، وتم توزيعنا على زنازين القاطع فأدخل كل أربعة إلى زنزانة لنجد أمامنا عشرة سجناء وتمّ سحب الأسرّة وأصبح في كل زنزانة أربعة عشر سجينا، فتح لنا باب الحجرة (5) في القاطع الرابع وأدخل أربعتنا : سعد الجازوي والمبروك اللافي (التونسيّ) ومحمد الجرنازي وكاتب هذه الأسطر وكان المنظر محزناً ومؤسفاً لم يغادر مخيلتي حتى اليوم و لم أجد عبارات يمكن أن تصفه: حُجرة ضوؤها خافت وقد بدت وجوه إخواننا وعليها آثار المكان والإهمال والبؤس والحرمان، ولم يكن حالنا مختلفاً في نظر من دخلنا عليهم ، وأقفل الجلاّدون الباب وراءنا فقام إلينا رفاقنا الجدد لاستقبالنا مصافحين ومعانقين وسط عبارات التعزية والتسلية والأمل فيما عند الله من خير، وتعارفنا وأخذنا أماكننا ووضعنا فرشنا حسب الترتيب فلم يعد هناك موضع مكشوف من أرضية الحجرة، وجدنا أمامنا السجناء: مسعود البرغثي (ابن عمة أحمد حواس) وعبدالسلام حواس (عسكري ابن عم لأحمد حواس) وجمعة حسن الجازوي العبيدي (المستشار الذي اغتيل ) وحسين الجروشي القبايلي ومحمد زيو وسيّد ادخيْلة العجيلي وعبدالله حسن شتيوي (شريدي من أولاد سليمان خبير متفجرات) وخالد بريكو (من زوارة كان رفيقا لأحمد حواس لما كان قائما بأعمال السفارة الليبية في غوايانا) وعيسى زغدود (ابن عمة الشهيد خالد علي يحيى) وعيسى شتيوي (من نالوت صهر لخالد علي يحيى) .
بدأت رحلتنا داخل القاطع الرابع وبدأت معاناة سجناء قضية مايو 84 ، زحام في العدد عزل كامل عن الحياة والأحياء (منع الزيارات أو الخروج للهواء) الزجر والإهانة والاستفزاز والضرب مع أخذ كامل أهبة الاحتياط والاستعداد عند دخول القاطع الرابع، وكذلك سياسة تجويع متعمّد كعقوبة وإضعاف للجهد والقدرة، فوجبة الإفطار التي يدخلون بها متى شاءوا أحيانا قرب الساعة 12 ضحىً تحتوي على : باكو حليب مبستر ناقص قرابة الثلث لكامل الحجرة، مع رغيف خبز لكل فرد طوال اليوم ،هذا الثابت أما الموزع على الأيام فيوم علبة جبن صغيرة لشخصين ويوم بيضة ويوم مربّى والعجيب أنه يوزع لكل حجرة قدر ملعقة أكل عادية واحدة فقط مع ملعقة زبد واحدة، أما الغداء فيوم وجبة أرز معجون لا يعرف له لون ولا طعم على حدّ وصف بعض إخوتنا من المنطقة الشرقية 🙁رز قفار امشيّط و حار) قد طبخ دون أية نظافة له أو لحلة الطبخ، وفي اليوم التالي تكون الوجبة (مكرونة) معجونة هي الأخرى بوصف ما سبق، أما اللحم فأكثره من نصيب الحرس الذين لا يتركون إلا الفتات وبقايا العظام، وتراهم يوزعون ويأكلون، ولا يكاد يمر بعض الوقت على توزيع وجبة الغداء فإذا بهم يدخلون من جديد ليوزّعوا ما يسمى بوجبة العشاء عربة تدفع بها حلتان كبيرتان إحداهما للطبيخ ماء أحمر اللون يصادفك فيه قطعة بطاطا أو قرع أو لا يصادفك، ومع العربة هناك سطل ماء لتغطية العجز إذا لزم الأمر فيضاف لحلّة الطبيخ لتكون كافة وافية للجميع، أما الحّلة الأخرى فهي للشاهي؛ ماء أسود اللون قد أخذ نصيبه من حلة الطبيخ أثناء إحضارهما في السيارة وعند التوزيع ويعطى بقدر حصة الحليب في الصباح.
…
يتبع في الجزء السادس
_______________
المصدر: قناة غريان الحرة (2013)