المناضل علي بشير يتذكر: مرافقة الشهيد في رحلة عودته إلى الوطن وملابسات استشهاده، وأحداث أخرى
هذه سردية أحد رفاق الشهيد الذين عبروا الحدود معه نحو الوطن، يحكي فيها تجربته مع مجموعة بدر وعن دخولهم إلى أرض الوطن وعن ملابسات استشهاد الحاج أحمد، وعن اعتقاله ورفيقه الآخر في تلك الرحلة، وعن تجربته في سجن بوسليم وغيرها من الذكريات.
بقلم علي بشير حمودة
الجزء الرابع
لقد شاعت روايات كثيرة –لا أشك أن القذافي هو من يشيع أكثرها– تقول الروايات: أنّ تونس هي من باعت أحمد حواس، ورواية أخرى : أنها المخابرات الأمريكية، وذهب الخيال ببعضهم بعيداً وقال: إنّ الجبهة نفسها هي من باعت أحمد للخلاص منه ومن مليشيته المسلحة، وفي رأيي أنها حرب نفسية من القذافي وترسيخ لفكرة يريدها أن تسري في الناس لأن مردودها في صالحه، والذي أعتقده وأجزم به أن وقوعنا بيد الأمن كان محض قدراً محتوماً، ونظراً للتفريط في بعض الأسباب التي يجب الأخذ بها، ولو كان عند القذافي أدنى معلومة لكان استقبالنا مختلفاً، ولما بقي حواس مجهولا لهم لساعات حتى جاء الهالك خليفة حنيش وعرفهم به، أما الإشاعة الكبرى التي أطلقها القذافي ذلك اليوم للرأي العام أنّ الذين دخلوا وقبض عليهم (فلسطينيون).
كانوا يعودون للتحقيق معي ولكني لم أفدهم بشيء، لكنهم وجدوا مفكرة عند أحمد –رحمه الله– وعثروا فيها على بعض الأسماء وأرقام التلفونات، فتمت عمليات قبض واسعة النطاق مستندة إلى المفكرة وإلى دوائر الأقارب والمعارف والمشتبه بأن لهم صلة فكرية أو شخصية بقيادات الجبهة وكذلك الذين كانوا يدرسون بالخارج رجعوا قريباً من الولايات المتحدة، واستمر الوضع غامضاً يومي الأحد والاثنين، 6 و 7 مايو. وقبض على الشهيد خالد علي يحيى، الذي كان على صلة بالفدائيين الذين دخلوا البلاد، ليلة الثلاثاء (الاثنين في الليل حسب تعبيرنا) أذاع تلفزيون القذافي أنه تم قتل أحمد حواس أثناء محاولته عبور الحدود وتم القبض على مرافقين له بعد إصابتهما، وهو تزوير للحدث لكنها طريقة القذافي المعروفة وعادته في تزييف الوقائع، وكان الوصول إلى الشهيد خالد يحيى وصولا إلى رأس الخيط.
اعتقال الشهيد خالد يحي معمر
انتبه الشباب الذين كانوا بإحدى الشقق بعمارة في شارع الجمهورية (مكانها قرب مسجد القدس) انتبهوا إلى خبر التلفزيون ورأوا قائدهم حواس وقد استشهد، فوقع الخبر عليهم كأشد ما يكون، نظراً لعلاقتهم الحميمة بالرجل، ولأنهم لم يصدقوا أن يدخل إليهم بنفسه، وكانوا قد علموا –مؤخرا– بالقبض على خالد من قبل الشيخ محمد سعيد الشيباني –رحمه الله– وعندها استعدوا للخروج ومغادرة العمارة صباحاً أو للمواجهة أيضاً. الشهيد خالد يحيى –رحمه الله– قاوم لمدة يومين وتعرض لأبشع وأفظع وسائل التعذيب، ثم اعترف وظن أنّ الوقت كان كافياً لخروج الشباب من الشقة التي كانوا فيها، ويبدو لي أنه اعترف صباح الثلاثاء 8 مايو، لأنّ جماعة القذافي ما كانوا ليؤجلوا المجيء إلى العمارة ولجاءوا إليها أول ما علموا خبرها.
طوقت قوة من الكتيبة الأمنية المسماة كتيبة امحمد المقريف العمارة بالمشاة والآليات المدرعة عند السابعة صباحاً، وطلبوا من خالد أن يذهب إلى الشقة ويطلب استسلام المجموعة الفدائية، وكان الشباب على أهبة الاستعداد، بما لديهم من سلاح وعتاد.
استدراك لخطأ مني حول المعركة خارج العمارة
في الحلقة الماضية وقد صحح لي المعلومة أخي ورفيقي أسامة شلوف، فمجموعة الفدائيين عندما علمت نبأ اختفاء خالد علي يحيى واستشهاد أحمد حواس كانت تقيم بمنزل يقع بمنطقة الدريبي وعندها قرروا الانتقال إلى مكان العمارة بعد أن جهزوا أنفسهم لكل الاحتمالات وأعدوا قنابلهم التي جهزوها بأنفسهم بعد إعدادها في ورشة حدادة وعند الصباح الباكر انطلقوا إلى شقة بإحدى عمارات شارع الجمهورية بطرابلس وكانت خطتهم أن ينتشروا ولا يبقوا في مكان واحد وعندما وصلوا المكان المقصود دخلوا ولم يتمكنوا من حمل كل ما معهم فبقيت بعض الأسلحة –بنادق (إف إن) وذخيرتها– داخل السيارة مخافة المراقبة وحملوا ما استطاعوا حمله من الأسلحة الخفيفة التي يمكن إخفاؤها كالمسدسات والغدارات (بريتا و استرلنغ) والقنابل إلا أنهم فوجئوا بقوات الطاغية تطوق المكان عند حوالي العاشرة صباحاً (ما يسمى بكتيبة امحمد المقريف وكتيبة الحرس تحت إمرة خليفة حنيش القذافي) وشاهدوا بعض العناصر الأمنية ومعهم الشهيد خالد علي يحيى تتقدم وتدخل العمارة وتصعد إلى الشقة وهنا بادر الشباب بإطلاق النار وردت الكتيبة بقوة نارية وسقط أول شهيد وهو خالد علي يحيى وجذبه الشباب إلى مدخل الشقة فأسلم الروح بين يدي أسامة شلوف، وقام عارف دخيل البرعصي بإلقاء قنبلتين عند مطلع درج العمارة مما أدى لتقهقر قوات الطاغية وفتح ثغرة في الحصار وحينها نزل الشباب على دفعتين واستمر عارف في رمي القنابل وقد أخبرني أنه رمى ثمانية عشر قنبلة في ذلك اليوم، وسقط الشهيد الثاني مصطفى الجالي أبوغرارة في فناء العمارة تلاه مباشرة الشهيد محمد هاشم الحضيري المجبري، واستمرت المعركة الضارية بين قوتين غير متكافئتين، وكانت المدرعات تطلق نيران رشاشاتها (14.5) بكثافة بالإضافة إلى قذائف (آر بي جي) واستمرت المعركة إلى الساعة الثانية عشر وسقط الشهداء في أماكن مختلفة حول العمارة: جمال السباعي، عبدالناصر الدحرة، سالم الماني، عبدالله الماطوني، محمد ونيس الرعيض، يحيى علي يحيى (أخ خالد) الذي وجد سيارة قمامة فركبها وقادها إلا أنهم أطلقوا النار عليه فقُتل، واستطاع بعض الشباب بعد المعركة الإفلات من قوات الطاغية وهم : عارف دخيل وأسامة شلوف وصالح المؤدب وسالم الحاسي وكمال الشامي، إلا أنه ألقي القبض في نفس اليوم على عارف وأسامة، وبعد حوالي ثلاثة أشهر على صالح المؤدب (توفي رحمه الله سنة 2009)، فيما تمكن الحاسي والشامي من النجاة ومغادرة البلاد بما يشبه المعجزة، أما الشهيدان: مجدي الشويهدي وسالم القلالي فكانا خارج المكان واستشهدا بعد ذلك بأيام، سالم القلالي بإحدى المزارع إثر معركة مع جند الطاغية، أما مجدي فاستشهد فوق عمارة بشارع النصر بعد أن أطلق عليه النار المدعو سعد مسعود القذافي.
وهكذا خاض الفدائيون الشباب أبطال مجموعة (بدر) معركة غير متكافئة، آثروا خلالها الشهادة على الاستسلام، وسجلوا إحدى ملاحم البطولة والفداء في تاريخ البلاد، ومع أن الخطة المرسومة للعمل قد أحبطت وفشل المخطط ، إلا أن تلك المعركة كان لها ما كان من آثار على شرفاء وأحرار البلاد، ونقلت تفكير وعمل المعارضة بصفة عامة إلى مربع جديد في صراع شعبنا مع جلاديه وظالميه.
جُمعت أجساد الشهداء ووضعت بميدان الشهداء بطرابلس، وسبحان الله ! حين يكون القدر أكبر من الطغاة! ويكون من أمر الله ما لا يعلم سرّه إلا الله ويشاء الله لهؤلاء الفتية أن ينقلوا إلى ميدان الشهداء تحديداً وكأنها الرسالة الواضحة إلى الناس بأن هؤلاء الفتية من مختلف أنحاء القطر الليبي – عرباً وأمازيغ– هم شهداء وها هم في ميدان الشهداء!! وجيء بالغوغاء عبدة الطاغية ليعبثوا ويمثلوا بأجساد الشهداء ويعبروا عن حقيقتهم وحقيقة سيدهم الذي أمرهم بذلك واستخفهم فأطاعوه وسُرّ بما رأى منهم، وداست أقدام السفهاء أجساد الشهداء وضُربت وجوههم بأدوات لتشويه معالمها، وغمست إحدى حارسات الطاغية يديها في دماء الشهداء ورفعتهما على الملأ تباهيا وإرضاء لحقد وساديّة سيدها الوغد، ولكنّ الله يمهل ولا يهمل، وحصد الطاغية بعض ما زرعت يداه في دنياه والله أعلم بما سيلقاه في أخراه ووقف كثير من أعوانه على عواقب وخيمة يعرفها الكثيرون ممن رصدوا سير الأحداث.
عقب المعركة في شارع الجمهورية، دخل عليّ ظهر ذلك اليوم 8 مايو أحد المحققين وهو متشنج مذعور مرتبك متلعثم العبارات ليقول لي : أنت السبب؛ لقد كان بإمكانك تجنيب البلاد هذه المجزرة، فعلمتُ أنّ الشباب خاضوا المعركة وسطروا ملحمة الفداء، وسجلوا حدثاً مجيداً له ما بعده، بقيتُ بعدها يومين في زوارة، ويوم الجمعة ظهراً 11 مايو أنزلوني أنا ورفيقي عماد الحصايري وحُملت على نقالة إلى سيارة إسعاف وخلال ذلك رأيت الكثير من مسلحي الأمن ومليشيا اللجان الثورية يملئون ممرات ومداخل المستشفى، ووضعت في سيارة إسعاف بها ممرضة وحرس مسلح وكذلك كان حال أخي عماد، وانطلقت بنا السيارات إلى طرابلس وسط رتل حراسة مشددة، ووصلنا أخيراً إلى طرابلس، وأُنزلت بمكان علمت – فيما بعد– أنه سجن (أبوسليم) وأنزلت وسط هرج ومرج المجرمين، وأذكر أنّ أحدهم كان يسأل: “وين الرايد عبدالله السنوسي” ووضعت على الأرض في أحد مكاتب التحقيق ممداً على نقالتي وشرع أحدهم يستجوبني، ويهددني : إما أن تعترف أو نجلب أخواتك إلى هنا؟ وكنت أسمع صراخ السجناء وهم يلاقون أبشع وأفظع أنواع التعذيب: الضرب الذي تستغرب كيف لا يذوب معه جسد الضحية والصعق الكهربائي والكلاب المرعبة المدربة التي تنهش وتلتقي أنيابها في جسد من تسلط عليه والجلادون الكبار يستمتعون ويضحكون ويبتسمون، وتدهورت حالتي في تلك اللحظات مما اضطرهم إلى نقلي للمستشفى، ووضعت بسيارة إسعاف وقال أحدهم: “أرفعوه للخضرا” أي مستشفى الخضراء، وكانت الأوامر: “ممنوع يشوفه طبيب عربي” (هكذا أوامر خيري خالد) ونُقلت إلى المستشفى ووضعت بغرفة العناية المركزة، ووضعت لي حقنة التغذية ولفتني أسلاك الأجهزة وأجريت لي في اليوم التالي عملية جراحية أخرى.
وتوالى التحقيق معي بالمستشفى وكنت في حالة صعبة للغاية، ولا يكادون يبدؤون التحقيق حتى أسمعهم يقولون – مضطرين– ونظراً لحالته أقفل المحضر بتاريخه تحت الحراسة المشدّدة بمستشفى الخضراء، وكانت القوة التي تتولى حراستنا أنا وعماد خمسة أفراد من الشرطة العسكرية نقيب ورئيس عرفاء وثلاثة أفراد، يتناوبون ثلاث مرات في اليوم ولما نُقل عماد للسجن صاروا ثلاثة أفراد كل مجموعة تحرس يوماً وتغيب يومين، كان التحقيق يجري معي أكثر من مرة في اليوم بالمستشفى وأحياناً كانوا ينقلونني إلى مقر إدارة الشرطة العسكرية بسجن أبي سليم، وهناك رأيت الكثيرين من أعوان الطاغية: خيري خالد، عبد الله السنوسي، خليفة حنيش، سعيد خيشة، عمار لطيّف، موسى كوسة، عبدالسلام الزادمة، وغيرهم ممن لا أعرفهم، وعلمت حينها أن والدي قد اعتقل وكذلك عمّي عمر و عمّي مصطفى، وعندما قلت لهم: حرام عليكم ما ذنب هؤلاء قال لي عمار لطيف وبلهجة السفهاء: “هاذي سياسة لا نعرفو بوك ولا أمك ولا دينك” وكان بعضهم يعبر عن حنقه وامتعاضه لعدم قدرته على تعذيبي بسبب حالتي الصحية.
بقيت في غرفة العناية بمستشفى الخضراء بطرابلس، وبين لحظة وأخرى كان يدخل عليّ بعض المحققين وكانوا يسألون ويعيدون الأسئلة من جديد، وقد أخذت في إحدى المرات إلى سجن أبوسليم وجلست وسط حشد من كبار أعوان الطاغية دون أن أُسأل عن شيء وأحسست أن شخصا ما يراقبني من حيث لا أراه، وقد علمت – فيما بعد – أن القذافي قد زار السجن ومرّ على الممرات والزنازين وقد أخبرني عارف دخيل أنه تأكد من شخصيته حين فتحت عليه كوة باب الزنزانة فرأى شخصاً ملثماً ينظر إليه هو القذافي وزاد تأكده حين سمعه بلهجته المعروفة يقول لمرافقيه : كلهم صغار!.
واستمر الحال على هذا المنوال: نقل واستجواب آناء الليل.
مخانق في شهر رمضان
رُشحتْ أسماء كثير من المعتلقين في قضيتنا سنة 1984م للإعدام، قرابة السبعين اسماً – فيما علمت– ومع بداية شهر رمضان المبارك، بدأت العملية الوحشية البشعة التي هي وبلا شك من إعداد وإخراج وتوزيع (القذافي) بنفسه وتنفيذ أدواته التي مسخت إلى درجة لم تعد بعدها درجة أخرى ينافسهم عليها أحد، في شهر الله الحرام ، شهر الصوم رمضان، كان يتم جمع الغوغاء فيما كان يسمى بالمؤتمرات الشعبية ويؤتى بالرجل المرشح للموت من قبل (القذافي) إلى مؤتمر منطقته ليصدر عليه حكم الإعدام الصادر مسبقاً، وقد أعدت المشنقة أيضاً وبتعبير أدق (المخنقة) فالشنق غير الخنق كما هو معروف، فللشنق معايير معينة تؤدي إلى الوفاة بطريقة سريعة نتيجة كسر النخاع الشوكي، أما الخنق فعملية بشعة تطول وتؤدي إلى عذاب طويل للضحية، يتم ذلك في النهار وبعد صلاة المغرب وعند الإفطار يعرض تلفزيون (القذافي) مشاهد الإعدام زيادة في الترويع والتنكيل والتنكيد المقصود المتعمّد على الليبيين.
وقد علق الطاغية على ذلك فيما بعد مبديا إعجابه ونفى أن تكون هناك مشكلة في الإعدام والصيام.
يوم 3 رمضان تمت جريمة إعدام الشيخ محمد سعيد الشيباني بمدينة طمزين بالجبل الغربي وكذلك أحمد علي سليمان وساسي زكري بمدينة نالوت.
يوم 5 رمضان تمت جريمة إعدام الصادق الشويهدي بالمدينة الرياضية ببنغازي. وكذلك عثمان زرتي بسوق الجمعة بطرابلس.
يوم 7 رمضان تمت جريمة إعدام عبدالباري فنوش بمدينة جالو.
يوم 10 رمضان تمت جريمة إعدام فرحات حلب بمدينة زوارة.
يوم 14 رمضان تمت جريمة إعدام المهدي لياس بمدينة طبرق.
وهكذا أراد الطاغية الهالك بقصد وغاية أن يجعل من شهر رمضان مشهدا مروعاً لليبيين في الوقت الذي يتمتع هو فيه بالمشهدين معاً: برؤية ضحاياه على حبال المخانق، وبرؤية الليبيين مرعوبين منكودين في نهارهم وعند ساعة إفطارهم، لكن مشيئة الله حالت بين القذافي وبين ما يريده، فقد حصل رفض وردة فعل في مدينة المرج حين طلب من أهل المرج إعدام ونيس العيساوي، وكذلك مدينة ودّان التي حدثت فيها شبه ثورة وتكسير للكاميرات وغيرها عندما طلبوا منهم إعدام إسماعيل السنوسي الشريف أدت إلى تأجيل العملية واعتقال بعض الشباب من ودان وأودعوا سجن (أبوسليم) كذلك رفض أولاد أبوسيف بمزدة إعدام الدكتور علي بن عروس البوسيفي، كما سمعت – لاحقاً – أنّ هناك تدخلات من بعض الدول مثل الجزائر ومن الملك السعودي فهد أدّت إلى إيقاف مسلسل الإعدامات.
في أول يوليو – تقريبا– جاءني بالمستشفى محقق (كنت أسمع عنه ولا أعرفه) و أخذ يدور حول سريري، ويضع ما بين إبهام وسبابة يده اليمنى على خاصرته ويسألني بطريقة مستفزة ومتعالية وبين حين وحين يسألني: هل عرفتني؟ فلا أكترث له، فأعادها مرتين ثم أجاب : يقف أمامك رئيس نيابة أمن الثورة وهذا الكاتب بن زيتون، فعرفت أنه حسن بن يونس، ووجدت نفسي في جدل عقيم مع رجل يضع الشواهد والنصوص في غير موضعها ويوالي الطاغية دون مواربة ويزعم أنه جهة تحقيق، قال لي متبجحاً : أين درست؟ فقلت: في معهد القويري الديني، فقال: إذن قرأت الفقه وقرأت في الفقه باب البغي، وأنت باغي.
الانتقال إلى سجن أبوسليم
قد بقيت بالمستشفى حتى يوم الأحد الثاني من ذي القعدة 1404هـ الموافق للتاسع والعشرين من يوليو 1984م، ففي ذلك اليوم عند الظهيرة أخذني الحراس إلى السجن، وضعت القيود في يدي والعصابة على عينيّ وانطلقت بي السيارة إلى (أبوسليم) وهناك سلمت إلى حراس السجن (عتاة وأجلاف الشرطة العسكرية) وكنت أقاد قيادة الأعمى الذي لا يعرف أين يضع قدميه، اصعد الدرج انزل اصعد مرة أخرى انزل وسمعت أبواب الحديد تفتح واحداً تلو الآخر الرئيسي فالممرات ثم العنابر وأخيراً الزنزانة، فكوا قيدي ونزعوا الغطاء عني داخل الزنزانة، التي عرفت فيما بعد أنها الحجرة 8 بالقاطع الثاني بالسجن المركزي وأقفلوا علي الباب ومضوا، ووقعت منهكاً على سرير عليه فراش، كان وزني حين خرجت من المستشفى 45 ك ج ، ولا تزال فتحة كبيرة في جانبي الأيمن يلصق بها كيس معروف هو وسيلة خلاصي من فضلات البطن، ولا تزال يدي اليسرى المكسورة شبه مغلولة إلى عنقي، وكنت أعاني حالة إسهال مستمر دام معي غالب مدّة سجني، مما جعلني أعاني حالة إرهاق وهبوط مستمر يصل أحيانا إلى العجز والسقوط، والحمد لله على كل حال.
عقب مغادرة الحرس للمكان الذي لم تكن لي عنه أي فكرة أو تصوّر بدأت أسمع أصوات السجناء، ولم أكن أعلم مصدرها ولا وضعية أصحابها، سمعت أحاديثهم عني، فقد رأوا ضيفا جديداً (هيكلا عظميا ) يقاد إلى الزنزانة، وكلهم يطلبون من أقرب السجناء إلي موافاتهم بأخباري، سمعت أصوات نساء، وتلاوات قرآن وأحاديث من هنا وهناك، وتحذيرات من الحراس بضرورة السكوت وإلا… واستطاع السجين المقابل لي (زنزانة 7) وأذكر أن لقبه النجار (ليس الدكتور عبدالمنعم النجار رحمه الله) حاول الحديث معي وأخذ المعلومات الأولية عني، وقد تحدثت إليه وأخبرته عني وعن قصتي فبثها بدوره إلى الجميع في ذلك القاطع، وكان الحراس في الساعات والأيام الأولى ( رؤساء نوبات الحراسة) يفتحون علي الكوة وأحيانا الباب ويدخلون بين ساعة وأخرى، بعضهم يتعرّف علي وآخر يقول لصاحبه: هذا هو، ثم يذهبون، ونظراً لحالتي وعدم قدرتي على سرعة الحركة كانوا يضعون الطعام داخل الحجرة، ثمّ جاؤا إليّ بطبيب هندي (اسمه زهقان) وبعد أن أجرى لي بعض الفحوصات قال لهم: “هذا لا زم فيه هواء” فقال له الحرس: الهواء كويس، واقتنع بإجابتهم ووافقهم الرأي ، ومع مضي الوقت بدأت أتعرف على طبيعة المكان واقتربت من الباب وأصبحت أتجاوب مع أحاديث السجناء، أقول لهم ما عندي وأسمع ما عندهم، وكان الذي يحدثني الأخ الفاضل عمر الوحيشي (أحد شباب جماعة الإخوان المسلمين من مدينة بنغازي) وكان معه هليل البيجو في الزنزانة رقم (5) وكانا يقرآن القرآن من حين لآخر بصوت جهوري شجي يؤنس وحشة السجن والسجناء، وقد استفدت منهم بعض الأخبار والتفاصيل التي لم تكن عندي.
كانوا يتحدثون من خلال (الشرّاعات) وهي فتحة صغيرة في الثلث الأعلى من باب الزنزانة ويرصدون حركة الحرس التي لا تكاد تقف، وذلك باستعمال الغطاء اللماع الذي يوضع على صنبور(خلاط) الماء بعد نزعه وهو على هيئة مرآة مقعرة توضع بزاوية ما في شراعة الباب فتكشف الحرس دون أن يكشفها هو فإذا شعر أحد االسجناء الذين يراقبون حركة الحرس بشي ينادى بصوت مسموع : “قدّووووس” اسم من الأسماء الحسنى والنداء به يعني التحذير من وجود الحرس، ثم أرسل إليّ الإخوة في الحجرة (5) ورقة كتب عليها قدر كبير من سورة الإسراء، فتح الحرس (يدعى الزوام) كوة الباب وناداني وفي حذر شديد دفع إلي الورقة وذهب بسرعة، وفتحت الورقة لأسعد بما فيها ولتبدأ رحلتي مع إتمام حفظ كتاب الله الكريم، وفي اليوم التالي قلت لهذا الحرس خذ الورقة وهات غيرها، فقال لي هل أكملتها ! فقلت نعم، فأخذها ثمّ جاءني بأخرى وكانت علبة حليب ورقية سلخ بعضها عن بعض وكتب عليها بالشاي وبعضها لايزال معي حتى اليوم.
…
يتبع في الجزء الخامس
_____________
المصدر: قناة غريان الحرة (2013)