المناضل علي بشير يتذكر: مرافقة الشهيد في عودته إلى الوطن وملابسات استشهاده، وأحداث أخرى
هذه سردية أحد رفاق الشهيد الذين عبروا الحدود معه نحو الوطن، يحكي فيها تجربته مع مجموعة بدر ودخولهم إلى أرض الوطن وعن ملابسات استشهاد الحاج أحمد، وعن اعتقاله ورفيقه الآخر في تلك الرحلة، وعن تجربته في سجن بوسليم وغيرها من الذكريات.
بقلم علي بشير حمودة
الجزء الثاني
من الحجاز إلى السودان :
غادرنا مطار جدّة إلى الخرطوم وذلك منتصف شهر أكتوبر 1982م وكان وقت وصولنا ليلاً وقد استقبلنا في المطار بعض أعضاء الجبهة وانتقلنا إلى أحد بيوت الضيافة التي خصصتها الحكومة السودانية للجبهة بشارع الجمهورية بالخرطوم، وهناك وجدت معظم وأهمّ قيادات الجبهة – في ذلك الوقت– الذين حضروا اجتماعاً للمكتب الدائم، الدكتور محمد المقريف الأمين العام للجبهة ونائبه السيد غيث عبد المجيد سيف النصر وأحمد حواس المفوّض العسكري، وإبراهيم صهد المفوّض السياسي وعلي أبو زعكوك المفوّض الإعلامي وفايز جبريل الذي كان على رأس اتحاد طلبة ليبيا المعارض، والعميد مصطفى القويري و محمود الناكوع، وعاشور الشامس وغيرهم من أعضاء ومناضلي الجبهة، وكان البيت أشبه شيء بخلية النحل، حركة دائبة ونشاط موصول يستوي فيه الليل والنهار، وعلى الفور التحقت بإذاعة الجبهة التي كانت تسمى: صوت الشعب الليبي صوت الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا، وكان على رأس العمل الإذاعي أخ فاضل من مدينة جادو اسمه أحمد سعيد، فرحب بي وعرض علي طريقة وخريطة البرامج كانت أدواته بسيطة مسجل وأشرطة كاسيت وحجرة متواضعة لم تكن مجهزة كقاعة تسجيل (أستوديو) فقلت : سبحان الله هذه الأدوات البسيطة المتواضعة تقض مضجع الطاغية وتجعله يبحث عن أغلى وسائل التشويش ليحول بين الشعب الليبي وسماع الحقيقة.
لقد كان لهذه الإذاعة دور هام في إذكاء روح المقاومة لسلطة الطاغية وكسر لحاجز التعتيم الإعلامي الذي بذل القذافي أقصى جهده لتكريسه حتى يتسنى له الاستفراد بالساحة في ظل تغييب الحقائق ليكذب ويزيف التاريخ والواقع، لقد أزعجت تلك الإذاعة المتواضعة القذافي وظهر ذلك واضحا في كلماته عنها ومن خلال التشويش ثم أوامره لقاذفات السلاح الجوي بقصف إذاعة أم درمان لإسكات صوت الجبهة ولم يفلح، فعملت بالإذاعة كاتبا ومحررا ومذيعاً، ثم تطور وضع الإذاعة حين انتقلنا لبيت آخر بحي الصافية بالخرطوم وصارت لنا قاعة تسجيل وبعض الأجهزة التي تساعد على التسجيل والإخراج والتنفيذ الملائم للمادّة الإعلامية.
أول زيارة إلى القاهرة
في أبريل 1983م توجهت إلى القاهرة رفقة الاستاذ علي عبدالله الضراط وكان اليوم يوم جمعة وعند وصولنا للمطار تم احتجازي من قبل الأمن المصري وأحسستُ أنهم ظنوا أنني فلسطيني أحمل جواز سفر سوداني مزوّر وقد أخذت إلى أحد المكاتب لأجلس منتظراً لحوالي ساعتين، إلا أن هناك اتصالات حدثت فأطلق سراحي، وعموما كانت أساليب تعامل الحكومة المصرية مع الجبهة في ذلك الوقت تنم عن عدم ارتياح لا تخلو من مضايقة لاسيما لبعض الشخصيات مثل ما حدث مع أحمد حواس وقد بدأ القذافي في سنة 1983م يمهد لعودة علاقته بالحكومة المصرية وكانت زيارة المدعو أحمد قذاف الدم السرية إلى مصر لشعوره بخطر مصر، ثم أطلق سراحي، وكانت هذه أول مرة أرى فيها القاهرة، وكان أول ليبي أراه يوسف شاكير الذي كان رئيسا لمكتب الجبهة في مصر وكانت شخصيته مثيرة لقلقي وانزعاجي نظراً لسلوكه وعباراته ولا أعتقد –كما يظن البعض– أنه كان جاسوسا للقذافي وما كان منه بعد ذلك هو –في تقديري – ردّة فعل خصوصا بعد سحب رئاسة مكتب الجبهة بمصر منه واختيار السيد عبدالرزاق أبوحجر، وقد أقمت عند الدكتور صالح الحاراتي بشقته في مصر الجديدة وهو أحد أعضاء مكتب الجبهة بالقاهرة وكان على صلة خاصة بعبد المنعم الهوني (الرجل اللغز) وليس هذا طعنا في شخصية الحاراتي ولكن لأنّ صالح هذا شقيق لمحمد الحاراتي أحد ضباط الانقلاب 1969م وقد قُتل في حادث سيارة في أول السبعينيات ويظن البعض أنه كان عملاً مدبّراً ، كما تعرفتُ على عدّة شخصيات هم أعضاء في الجبهة أو متعاطفون معها وعلى صلة بها، عبد الرزاق أبوحجر الذي تولى عقب تحرير طرابلس رئاسة المجلس المحلي بها، وتعرفت على الدكتور المهدي بيت المال و يوسف خربيش وعبد الحميد بن حليم (أحد أثرياء درنة وشقيق رئيس الوزراء مصطفى بن حليم) وعبد الله الدحرة ومحمد ونيس الرعيض وجمال محمود السباعي وعلي أبوخضير وغيرهم وتنقلت ما بين القاهرة والإسكندرية، وفي 13 مايو من تلك السنة توفي السيد إدريس السنوسي ملك ليبيا – رحمه الله – والذي دُفن بالبقيع بعد رفض القذافي أن يُدفن في الجغبوب .
وأذكر أنّ عددا كبيراً من الليبيين اجتمعوا في مقر إقامة الملك بالدقي في جوّ اجتماعي له دلالاته وشعور مشترك لا يخفى، وقد رأيت عدّة شخصيات ليبية في العزاء الذي أقيم بمقر إقامة الملك –رحمه الله– كنت أسمع عنها من بعيد : عمر الشلحي وعبدالله عابد وعبدالحميد البكوش ومصطفى محمد البركي .. ثم عدت إلى الخرطوم، فوجدت مجموعة من الشباب قد جاؤا وانضموا إلى الجبهة، كانوا طلبة ضمن بعثة عسكرية (فيما يعرف بالتصنيع الحربي) ومن هؤلاء الشباب أسامة شلوف وعارف دخيل ومصطفى أبو غرارة وأحمد الكاديكي ومصطفى الخفيفي وسعد الأثرم وشكري السنكي وعبدالسلام مرسي ومع هؤلاء جاء سالم الحاسي الذي كان يدرس بألمانيا وعلى صلة وثيقة بهؤلاء الشباب وهو الذي ضمهم لصفوف الجبهة، وكان على صلة وثيقة بهم، وقد ظهر هؤلاء الشباب في مؤتمر صحفي عبر تلفزيون السودان رفقة علي أبوزعكوك يعلنون مفاصلتهم للطاغية القذافي وانضمامهم للجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا، ولم يلبثوا إلا قليلا حتى التحقوا بمعسكر تدريب الجبهة الذي كان بمنطقة جبل أولياء العسكرية وتحديدا بمعسكر “جبل منذرة” وكان ذلك في أغسطس 1983م تقريبا، ليشكلوا بذلك نواة (قوات الإنقاذ) الذراع العسكرية للجبهة، وكان الفدائي البطل أحمد حواس على رأس هذا العمل بصفته المفوض والقائد للجناح العسكري، وكنت على صلة وثيقة ودائمة وخاصة بهؤلاء الفدائيين وإلى هؤلاء انضم عدّة شباب ليبيين من مناطق مختلفة في ليبيا جاؤا من مصر وأوروبا وكنت على صلة واتصال بالمعسكر وبالشباب مع انشغالي بالعمل الإعلامي من خلال الإذاعة، وقد تلقى الشباب تدريبا أولياً ثم انخرطوا في دورة تدريبية متقدّمة على أيدي معلمين من القوات الخاصة السودانية وعلى رأس هؤلاء المعلمين ضابطان من ضباط القوات السودانية الخاصة هما : الرائد عبد المنعم فودة والنقيب تاج السرّ عبد الله.
وهنا أريد أن أقول شيئاً للتاريخ وليعلمه القراء الأعزاء هو أنّ علاقة الجبهة بالسودان – وقد وقفت على مظاهر ذلك – كانت علاقة أخوية خالية من كل تكلف وتعقيد ولم يكن القوم يتدخلون في أي عمل نقوم به سواء في الجانب السياسيّ أو العسكريّ أو الإعلاميّ، إلا ما كان يتطلب التنسيق ويتعلق بسيادة البلد، ولم أشعر في يوم ما بما هو إملاء أو توجيه أو فوقية متعالية كما هي عند بعض الأنظمة المجاورة، في السودان قضيت أياماً لا تنسى وعشت تجربة لها بالغ الأثر في تفكيري ونظرتي للأمور والقضايا الفكرية والسياسية، وقد كانت البلاد تعيش ظروفاً صعبة ولا تزال فحرب الانفصال التي أشعلها القذافي في جنوب السودان بدعمه اللامحدود للعقيد جون قارنق ومخططاته لإسقاط النميري كانت عوامل استنزاف وإنهاك للسودان، ومع كل هذا يلمس الإنسان أن شعب السودان شعب مثقف بشكل عام، و أغلب الناس لهم توجهات فكرية وانتماءات سياسية وحزبية، وهم ذووا اهتمام بالشأن السياسي في كل مكان.
كان الحدث الأبرز في تلك الأيام حدث الثورة الإيرانية الذي هز المنطقة بكاملها وألقى بظلاله على المشهد السياسي عموماً ، وقد خرجت من ليبيا المغلقة إعلاميا وسياسياً والمغيبة بأبشع وطرق التغييب، فقد كانت الصحافة العربية والدولية ممنوعة والقنوات الإعلامية محدودة وغير متاحة للكلّ، أما في السودان فقد وجد الساحة مختلفة تماماً وصرت أطالع وأقرأ وأتابع وأسأل وأتواصل مع كل ما أمكنني الوصول إليه، وكانت نافذتي عبر الحركة الإسلامية التي كان على رأسها الدكتور حسن عبدالله الترابي هذا الرجل تأثرت كثيراً بفكره السياسي وطرحه الإسلامي ومشروعه الحضاري ووجدت عنده شخصياً الإجابة الشافية عن كل التساؤلات التي تشغلنا كشباب، وأكثر شيء شدّني إلى هذا الرجل لغته الراقية وخطابه المتميز الذي حاولت تقليده بداية ثم أصبحت أصدر فيه عن فكرة واضحة، كنت على صلة بهذا الرجل ولا أزال أحمل له احتراما وتقديراً وإعجاباً، إلا أنّ هناك بعض التساؤلات عما آل إليه خطابه في الآونة الأخيرة وأخذ عليه حتى من قبل تلاميذه وأبناء حركته، ولكنني أصرّ على أنه رجل ليس من السهل الحكم عليه فهو ابن ثقافته وبيئته، أذكر السيد إبراهيم السنوسي والدكتور التيجاني أبوجديري رحمه الله والصادق بخيت (المستشار الصحفي لعمر البشير) وأذكر أخي الفاضل جمال أحمد الذي كان يأتينا دائما لنخرج إلى جامعة الخرطوم وتحديداً إلى ساحة النشاط بالجامعة، والتي كانت ميداناً للكتابة والنقاش وطرح الأفكار والمناظرات السياسية، كما زرت عدة أماكن تاريخية لا سيما في أم درمان مهد الحركة المهدية وكنت حريصاً على حضور الندوات والمحاضرات الفكرية، وكان الألم يعتصرني وأنا أوازن بين تلك الحال وبين ما يجري في ليبيا المغلقة المقفلة بأسوار الطاغية وأعوانه السفهاء الذين كانوا يزوّرون كل شيء، ويكذبون على أنفسهم قبل كذبهم على من سواهم.
كنت أحيانا أمتعض من بعض اللافتات التي ترفع في الخرطوم ولا أزال أذكر إحداها (يسقط السفاح نميري) فأقول نعم قد يكون الرجل حاكماً فردياً دكتاتورياً ومن حق الناس أن تقول رأيها فيه دون مجاملة ولكن سؤالي: إن كان نميري سفاحاً فهل يستطيع أحد أن يعلق هذه اللافتة ثم تبقى لأراها مراراً وتكراراً ؟ ولكن أهل مكة أدرى بشعابها.
لقد وقف هذا الرجل إلى جانبنا ولم يقبل كافة عروض القذافي المغرية ولم يخش تهديداته المؤذية وبقى على موقفه هذا إلى آخر لحظة.
معسكر منذرة والاستعداد للعمل العسكري
في معسكر منذرة جمعتني أيام لم ولن أنساها ما حييت، بثلّة من شباب ليبيا الشرفاء الذين انضموا إلى الجبهة وإلى العمل العسكريّ الذي تكتنفه المخاطر في كافة مراحله وفي زمن كان فيه توزيع وقراءة المنشورات عملا بطولياً يكلّف الأرواح، و كان القذافي في أوج طغيانه وجبروته ينذر ويتوعّد ويرسل مرتزقته القتلة وكانت له علاقته بالاتحاد السوفييتي إمبراطورية الإلحاد والشر ويستفيد من ظروف الحرب الباردة وله علاقاته المشبوهة بكل المنظمات الإرهابية الإجرامية من القتلة والسفاحين والمافيا وما شاكلها في أوروبا وأمريكا اللاتينية وببعض تجار القضية الفلسطينية – حاش الشرفاء المناضلين – وكان يدفع الأموال بلا عدّ ولا قيد خدمة لمآربه وأحلامه المجنونة.
جاء هؤلاء الشباب الذين تركوا ملذات الحياة وكل مباهجها في الغرب – وكانت في متناول أيديهم – جاؤا ليتدربوا على السلاح ويحملوا همّ الوطن ويبدؤوا مسيرة الألف ميل بتلك الخطوة التي كان يعدّها البعض في ذلك الزمن ضرباً من الهوس والجنون.
معسكر منذرة، أحد المعسكرات التابعة للقوات الخاصّة السودانية وسُمي بهذا الاسم نسبة إلى جبل صغير اسمه جبل منذرة، وهذا الجبيل يشبه جبل (أُحُد) وقد خُصص هذا المعسكر للجبهة به مسجد شُيّد من الطين الخالص وسقفه خشب وإلى جواره بعض حجرات لتخزين السلاح ولوازم المعسكر، وهناك ميدان التدريب العنيف، ثم مجموعة خيام واحدة لقيادة المعسكر وعليها الراية القتالية للجبهة وفي هذه الخيمة كانت تقدم الدروس العسكرية وأساليب الحرب الفدائية التي كان يلقيها أحمد حواس شخصياً (كما في الصورة الشهيد أحمد حواس وإلى جواره الراية) وكذلك المدربون السودانيون.
وعند سفح الجبل ميدان الرماية (يسميه السودانيون: الذروة) حيث كانت تتم الرماية بمختلف أنواع الأسلحة الخفيفة والمتوسطة وكذلك التدريبات على استعمال العبوات الناسفة.
كانت العلاقة التي تربط هؤلاء الفدائيين قمّة في الأخوّة والمودّة والصفاء، وكان التطلع إلى دخول البلاد وحُبّ الشهادة والاستعداد للتضحية شيئا واضحاً على وجوه الجميع ولا يحتاج إلى اختبار، وواجهت قيادة الجبهة مشكلة عندما منع بعض الفدائيين من دخول ليبيا نظراً لظروفهم وإمكاناتهم البدنية لكنهم أصرّوا على الدخول ليكونوا مع إخوانهم، ولا تزال بين ناظري مشاهد هؤلاء الإخوة وهم يمارسون التدريبات العسكرية ويرددون الأناشيد والتكبيرات وكانت حماستهم شديدة لما هم بصدده.
وفي 14 يناير سنة 1984م التحقتُ وكذلك عماد الحصايري بدفعة تدريبية مع مجموعة جديدة من الشباب حوالي 25 متدرباً إلا أنّ المجموعة كانت مختلفة عن الأولى –عدا بعض العناصر– في حماستها واستعدادها بل منهم من جاء ليحصل على جواز سفر وما إلى ذلك، فمجموعة (بدر) كانت نموذجاً فريداً،
عودة مجموعة بدر إلى الوطن
وفي هذه الأثناء بدأت عملية الإعداد الفعلي لدخول الفدائيين إلى ليبيا وانتقل شباب الدفعة السابقة (مجموعة بدر) من معسكر منذرة إلى أحد البيوت المخصصة بأحد أحياء الخرطوم، حيث أعدت خطط الدخول وطبعت الهويات اللازمة من بطاقات وغيرها والتي كان يشرف على إعدادها الدكتور عبد الغني بن صوفية، وهو عمل دقيق ومهم جداً للفدائيين، وأذكر أنني وبرفقة علي عبد الله ودعنا أول الفدائيين بمطار الخرطوم الشهيد المهدي لياس رحمه الله الذي سافر إلى اليونان التي كانت مكان دراسته ليعود إلى ليبيا عودة عادية، وكذلك كان، أما بقية المجموعة فبدؤوا السفر إلى تونس، شخصان أو ثلاثة في كل مرّة، وفي تونس كان هناك الشهيد علي أبوزيد الرجباني (قتل على يد قتلة مستأجرين بلندن أوائل التسعينيات) وهو مدير عمل الجبهة بتونس؛ وكان يرتب عملية الدخول عن طريق البحر والبر، بواسطة المهربين الذين يعرفون مسالك الحدود، فدخل الشباب على هيئة مجموعات صغيرة واحدة تلو الأخرى، خلال الفترة ما بين يناير إلى أواسط أبريل 1984م سالم الحاسي (شحات) ومجدي الشويهدي (طرابلس) وصالح المؤدب(درنة) وأسامة شلوف (طرابلس) وسالم الماني (مصراتة) وسالم القلالي (طرابلس) وجمال السباعي (مصراتة) ومحمد هاشم (إجدابيا) وعبدالناصر الدحرة (مصراتة) ويحيى علي معمر(الجبل الغربي) وكمال الشامي ومحمد ونيس الرعيض(بنغازي)، وأخيراً عارف دخيل البرعصي (بنغازي) ومصطفى الجالي أبوغرارة (درنة) وكان قائد المجموعة المكلّف هو البطل الشهيد مجدي الشويهدي، وبعد الدخول بدأت المجموعة المكلفة بالاتصال بعناصر الجبهة أو المتعاونين في الداخل تتنقل داخل ليبيا لتكمل بقية المهمة، والتنسيق مع عناصر الجبهة في الداخل وترتيب أماكن الإيواء وتجميع الأسلحة وتوزيع الفدائيين على المناطق لتنفيذ الخطة، وهنا اصطدم الشباب بواقع يصعب وصفه أو تذليله، كانت الإمكانات محدودة جداً والترتيبات أصلاً لم تكن في مستوى العمل، ومعظم التخطيط كان قائماً على الوعود التي تراجع بعض أصحابها عنها، وللحقيقة والتاريخ لقد صارح بها أحمد احواس الشباب قبل دخولهم وكأنه كان يحسّ بشيء ما وهو رجل تقيّ يخاف الله حيث قال للشباب: “قد تذهبون إلى شخص وعدني بالمساعدة ثم يتنكر لذلك فمن لا يريد الدخول فلا يدخل من الآن” فقبل الشباب هذه الصراحة ولم يتراجع أحدٌ منهم إلا واحد فقط هو نجيمي التومي
الخطة العسكرية
، وقد كانت الخطة العسكرية للجبهة، القيام بعمليات فدائية تستهدف تصفية قائمة تضمّ اثنين وثلاثين عنصراً من أعوان القذافي ممن اشتهروا بالدموية والعنف، وكذلك تدمير ونسف بعض المقار التي لها دلالتها ومزيتها وخطورتها، على أن يتوزع العمل على رقعة ليبيا شرقاً وغرباً وجنوباً، وكانت مراحل العمل العسكري – حسب التصور – ثلاثة مراحل: مرحلة الاختبار ثم مرحلة المواجهة ثم مرحلة الانقضاض والحسم، ولكن التخطيط الفعلي لم يعط هذه المراحل حقها كما أنّ الظروف كانت أكبر من الجميع والقبضة الأمنية شديدة وحالة الخوف والتوجس والتردد عند الناس لا حدود لها والتجارب محدودة، ولست هنا في موضع الإدانة أو التشهير بل هو حديث عن النفس والتجربة الذاتية والتقييم الموضوعي الصادق لما حدث ولأقدم الحقيقة والتجربة كما كانت في الواقع ليقرأها جيل اليوم والغد ولتضاف إلى رصيد وكم التجارب والتضحيات التي قدمها شعبنا في مواجهة الطاغية، وفي نظري كان الأولى أن يدخل عنصران فقط ليتأكدا ويضعا البنية اللازمة قبل دخول الفدائيين، لا أن يُزج بالمجموعة كلها، ولم يجد الشباب إلا مقراً واحداً في طرابلس بقيت فيه المجموعة بكاملها ونتيجة الإحباط رأت المجموعة أن تتجاوز مخطط الجبهة وتضع خطة بديلة هي القيام بعملية فدائية تستهدف القذافي شخصياً، أثناء افتتاحه لمركز الدراسات التاريخية، بناء على المعلومات المؤكدة المتوفرة لدى المجموعة ووضعت لذلك خطة محكمة، إلا أنّ أحمد حواس رفض ذلك وأصرّ على السير حسب الخطة الأولى وهنا حدث خلاف بين الشباب، وعزل مجدي الشويهدي عن القيادة بعد إصراره على الالتزام بالخطة وقد وصل الأمر إلى قيام الشباب بحبس الشهيد مجدي ومنعه من الحركة إلا أنه أفلت وخرج، فعينوا سالم ياسين الماني (الشيخ عمر) قائداً للمجموعة وشكّل هذا الخلاف نقطة وعلامة خطيرة لدى القائد أحمد حواس، وعند مجيئه إلى الخرطوم أبلغني –بحكم صلتي القوية معه ومع المجموعة– بما حدث وقال لي وبالحرف الواحد: “يبدو أنني وضعت الشباب أمام مشكلة أكبر منهم، وعليّ أن أتحمل مسئوليتي أو أنال الشهادة” وحينها شعرتُ بخطورة الموقف وخطورة ما يعنيه أحمد بقوله، ثم قال لي: “سأدخل وستكون معي فما رأيك؟” فقلت له : لقد عاهدتك ولن أتردد فيما تأمرني به من الدخول وغيره، لكنّ دخولك أنت هو أمرٌ لا أوافقك عليه وقد يترتب عليه ما يحبط المخطط بكامله، لكنه كان مصرّا على الدخول، وقال لي جهزْ نفسك وعندما تأتيك الإشارة غادر إلى تونس، و سأذكر شيئاً –ربما يكون طريفاً– وما كنت أريد ذكره حتى لا يفهم في غير سياق ذكره ، قبل أن يفاتحني أحمد رحمه الله بالمعضلة وبما عزم عليه وقبلها بأيام قليلة رأيت في المنام كأنّ أحمد يدعوني إلى غرفة القيادة بالمعسكر، فدخلت ووجدته قد ركب على مسطبة عالية ويمد يده إلى صندوق عالٍ ويستخرج منه رطباً طيباً ويأكله وقال لي : مدّ يدك وكُلْ، فمددتُ يدي إلى الصندوق لأتناول التمر فلدغتني عقرب خرجت من ذلك الصندوق، واختفى أحمد من المشهد، ولم أعد أراه لكنني كنت أسمعه يحذرني ويقول لي: لا تترك العقرب، لا تترك العقرب. فأمسكت إصبعي اللديغ وطاردت تلك العقرب في كافة أرجاء المعسكر وكلما كدت أقتلها كانت تختبئ في شيء يمنعها مني واستمرت المطاردة طويلا حتى كدت أسقط من الإعياء وألم السم، وفي آخر لحظة لم تجد العقرب إلا جذر حطب وحينها أدركتها ودهستها بقدمي حتى نضحني شيء خرج منها، فعجبت لهذه الرؤيا وحين كلمني أحمد –رحمه الله– وفاتحني بالأمر أحسست بشيء ما قد يقع لكنني أبقيتها في نفسي.
…
يتبع في الجزء الثالث
____________
المصدر: قناة غريان الحرة (2013)