المناضل علي بشير يتذكر: مرافقة الشهيد في عودته إلى الوطن وملابسات استشهاده، وأحداث أخرى
هذه سردية أحد رفاق الشهيد الذين عبروا الحدود معه نحو الوطن، يحكي فيها تجربته مع مجموعة بدر وعن دخولهم إلى أرض الوطن وعن ملابسات استشهاد
الحاج أحمد، وعن اعتقاله ورفيقه الآخر في تلك الرحلة، وعن تجربته في سجن بوسليم وغيرها من الذكريات.
بقلم علي بشير حمودة
الجزء الأول
المولد والنشأة والدراسة الابتدائية
الاسم : علي محمّد البشير حمّودة القرطاجيّ، حمّودة هو لقب عائلتي واسمٌ لجدّي السابع، أما (القراطاجيّة) فهي إحدى لحمات – بيوتات – قبيلة يدّر الستة وإليها تنتمي عدّة عائلات منها عائلتي، نسبة إلى مدينة قرطاجنّة جنوب شرق الأندلس نزحت منها أصول العائلة عند محنة المسلمين في الأندلس وذلك حسب الرواية المتواترة لدى عائلات القراطجية، وهناك رواية أخرى: نسبة إلى الجدّ (قرطاج باشا) أحد كبار الضباط في بداية العهد العثماني في ليبيا.
بمدينة مصراتة ووسط قرية يدّر ولدت ليلة الجمعة 29/ربيع الآخر/1382هجري الموافق 28/ أيلول سبتمبر/1962 ميلاديّ، لعائلة متوسطة الحال، كانت هذه المنطقة هادئة وادعة و لا تزال المظاهر الطبيعية ظاهرة تحيط بالمنازل والبيوت، الأرض الزراعية جوار بيوتنا ولا نحتاج لشيء اسمه خروج للنزهة فالنخيل والزيتون والربيع والحيوانات الأليفة والتراب النظيف الذي لم تلوثه ملوثات اليوم كان هو ميدان حركتنا ومسرح لعبنا، وكانت بيوت الجيران متلاصقة متقاربة وأبوابها مفتوحة وحتى إن أغلقت ليلاً فهو مجرّد إشعار بأن الباب مغلق فقد كان الأمان سائداً ولا وجود لهذه الأسوار العالية والأبواب الحديدية التي جعلت البيوت كالمعسكرات.
كنا نلعب بين البيوت تحت عيون الأهل، وكان كبار القرية والجيران كآبائنا يكلفوننا ويأمروننا وينهوننا وكنا ندخل أي بيت نشاء من بيوت الجيران خلال الأوقات التي لا تتعارض وخصوصيات البيوت، أذكر أنّ الهدوء كان سائداً و لا شيء يكدر صفو حياتنا من ضجيج زمننا هذا والسيارات كانت قليلة كبيرة أو صغيرة وحين تمرّ إحداها نخرج لرؤيتها، كانت فصول السنة مواسم ولكل موسم نشاط وحركة تميزه موسم النخيل والزيتون والمحاصيل الزراعية المختلفة من شعير وفول وما تحتاجه من تنقية وتحريك تربة فكان الأطفال يساعدون الكبار فيما يستطيعون ويطيقون القيام به مع دروس نظرية وعملية للاستعداد مستقبلا للقيام بذلك، وأذكر أن بعض الأعمال تتمّ وسط اجتماع للجيران كدرس المحاصيل حيث تجهز القاعة (قاعة الدرس) وتكدس أغمار الحصيد ثم تقرن الدواب (الحمير) لتدرس (تدوس مراراً) تلك المادّة المحصودة عدّة ساعات حتى ينفصل الحب عن العصف والتبن وهكذا .
كانت الحياة – حتى مع التعب البدني– هادئة ومريحة ولا مكان للضغوط النفسية وحرب الأعصاب التي نخوضها اليوم. كان والدي يشتغل بالتجارة وكان محلّ عمله فزان بمدينة سبها تحديداً وكان يسافر ويبقى هناك بضعة أشهر فنشتاق لرؤيته، كان حريصاً على إطعامنا لقمة الحلال التي لا تشوبها شائبة وكنا نقيم في بيت مع جدّي وجدتي في بيت عربي التصميم نرى فيه السماء والشمس وحركة الظلال والفصول ولم تكن الكهرباء وصلت إلينا ثم وصلتنا سنة 1967م .
حين بلغت السادسة من عمري – صيف 1968م – أخذني والدي معه إلى مدينة سبها التي كنت أسمع عنها وأردد اسمها دون أيّ تصور لها، انطلقنا عقب صلاة الفجر في سيارة بيجو (403) وكنت أسأل عن سبها في كل لحظة: كم بقي؟ وطالت الرحلة إلى قبيل المغرب، وفي الطريق رأيت عالماً ومعالم لا تزال عالقة بذهني رأيت الصحراء وسراب الماء والجبال الحمراء والسوداء، وبعد وصولنا واستقبالنا من تجار مصراتة المجاورين لنا أقمنا بمحل يتبع دكان أبي بمنطقة وسط سبها تعرف باسم (اقعيّد) كان الحرّ شديداً لا عهد لي بمثله، وكانت الوجوه غريبة ألوان مختلفة وألسنة ترطن بلغة لا أعرفها، وبقيت هناك قرابة ثلاثة أشهر وهكذا منذ تلك السنة صرت أذهب إلى سبها كل عطلة صيفية مع والدي أو عمّي شريك والدي، إلى أن ترك الوالد التجارة سنة 1975م.
في أيلول سبتمبر سنة 1968م بدأت رحلتي مع الدراسة وتم تسجيلي بمدرسة يدّر الشرقية فقد كان في يدّر – ذلك الوقت– مدرستان ابتدائيتان الأولى مدرسة يدّر الغربية أسست سنة 1955م ضمن مساعدات النقطة الرابعة الأمريكية – حسب علمي– وهي التي بجوار خزان المياه الآن، أما المدرسة الأخرى فاسمها مدرسة يدّر الشرقية باعتبار الموضع وهكذا كانت التسميات طبيعية ومناسبة، كان مدير المدرسة الأستاذ الفاضل مصطفى قرواش – ذكره الله بخير ومتعه بالعافية– وكان للدراسة والمدرسة معنى وقيمة وتقاليد لها آثارها في التربية والإعداد، كانت الدراسة تبدأ مع بداية سبتمبر فدخلت المدرسة أنا ومن هم في طوري وسنّي، وكانت أول سنة لي في الدراسة العام الدراسي 1968/1969م وهي آخر سنة في عهد دولة الاستقلال المملكة الليبية، وحين كنا نستعد للسنة الثانية وقع الانقلاب العسكري سنة 1969م
معهد القويري الديني :
وفي سنة 1974م تحصلت على الشهادة الابتدائية فألحقني والدي بمعهد القويري الديني الذي كان مجاوراً لجامع القويري ثمّ نقل المعهد إلى مقرّ جديد على بداية طريق الجزيرة خلف فندق قوز التيك، وكانت النقلة كبيرة فقد صار المكان بعيداً وفي حاجة لوسيلة ركوب وهي الدراجة وكنت أرى المدينة كل يوم ولم أكن أراها إلا نادراً، وصار لي أصدقاء وزملاء من أنحاء مختلفة من مصراتة بعد أن كنت لا أعرف غير أبناء قبيلتي ولا أختلط إلا بجيراني، ووجدت نفسي أمام مشائخ وعلماء مشهورين بين الناس وهم علماء أجلاء مثل الشيخ محمّد قرّيو والشيخ مفتاح اللبيدي والشيخ محمد الكبير والشيخ أحمد أبو مزيريق والشيخ محمّد عيبلو وغيرهم من الأفاضل ، والدروس العلمية صارت دسمة وبطريقة تختلف عما عهدته في سابق دراستي إلا أني استطعت تجاوز الصعوبات وغدوت سعيداً بتلك الدراسة التي أفادتني الكثير والفضل لله أولا ثمّ لأولئك الأساتذة الكبار وللمنهج العلمي الذي سار عليه المعهد في المواد الشرعية واللغوية بالذات، وأرجو أن يعود المعهد لسابق عهده يحمل اسم مؤسّسه الرجل الخيّر الحاج عبدالله القويري رحمه الله وأن تراعى فيه تقاليد العلم والعلماء.
من الأحداث التي أذكرها في ثاني سنة لي بالمعهد سنة 1976م أننا دُعينا للخروج إلى مظاهرة تأييداً لانتفاضة وحركة طلابية في مدينة بنغازي ولم أكن أستوعب ما يحدث بشكل جيّد إلا أنني أتذكر طالباً بالمعهد محمد القذافي قدورة قال : لقد خرج الطلبة في بنغازي ومزّقوا صور القذافي، وخرجنا والتقينا ببقية طلاب المدرسة الثانوية والمدارس الأخرى وانطلقنا عبر شارع بنغازي بجوار الحامية العسكرية ثم أخذنا طريقنا بين الحامية ومدرسة مصراتة الجنوبية وازداد عدد الطلاب وعندها حلقت فوق رؤوسنا طائرات الكلية الجوية ولا أدري لأي غرض كان ذلك، ثم واصلنا طريقنا أمام معهد ابن غلبون للمعلمين ووصلنا إلى شارع طرابلس حيث اتجهنا إلى وسط المدينة، وعند مبنى المحافظة (محافظة مصراتة) رأيت أفراد الشرطة العسكرية يحيطون بمبنى المحافظة ورأيت أعداداً كبيرة من قوة البوليس وبالقرب من مبنى المحافظة ووسط شارع طرابلس قرأ بشير عبد السلام الشريف برقية موجهة إلى ما كان يسمى في ذلك الوقت بمجلس قيادة الثورة، لا أذكر ما جاء فيها حرفياً لكنها كانت تضامناً مع انتفاضة الطلبة في بنغازي، ثم تطور الأمر مع الشرطة وجاءت سيارة شاحنة (بدفورد) رصاصية اللون تابعة للشرطة مملوءة بعصي وهراوات غليظة أخذوا يوزعونها على أفراد البوليس الذين انهالوا علينا ضرباً بتلك العصي مع إطلاق نار متقطع في الهواء وتمّ تفريق المظاهرة.
خطوط التماس مع السياسة والأفكار:
أنهيت المرحلة الإعدادية ودخلت المرحلة الثانوية بالمعهد سنة 1397 – 1398ﻫ الموافق 1977- 1978م في هذه السنة جاء إلى المعهد الشيخ الفاضل أحمد أبومزيريق – رحمه الله رحمة واسعة– والذي كان مجيئه نقطة مهمة في تاريخ حياتي. الشيخ أبومزيريق هو أحد خريجي أول دفعة بمعهد القويري الديني ثم بعد ذلك هو خريج كلية أصول الدّين بالجامعة الإسلامية بالبيضاء وقد تولى تدريسنا التفسير والحديث وشرح الألفية في النحو ولم تكن الحصة معه تقليدية بل كان فيها الحوار والنقاش والتناول لأمورٍ فكرية مهمّة وكان الشيخ حوارياً منفتحاً مهتماً يُحسّ بذلك الفراغ الذي كنا نعانيه وكان يجيب ويثير نقاطاً تجعلنا ننتبه لأمور لا تكاد تخطر لنا على بال لو سرنا على ذلك الدأب التقليدي في طلب العلم وتوطدت علاقتنا به فقد كان عالما جليلا وكان في ذات الوقت متواضعا لا نشعر معه بتكلّف أو معاناة في التعامل.
كنا نذهب إليه في البيت لنستكمل المعلومة والنقاش وكان يثق بنا و ينبهنا إلى خطورة القذافي وأنه ملحد وعميل أمريكي يؤدي ويلعب دورا مرسوماً له وأن أمريكا – في ذلك الوقت– لا تزال تريد القذافي، كانت وبقيت بعض الأمور نستغرب فيها رأي الشيخ وربما نختلف فيها معه لكنها أمور محدودة وفرعيات لم تكن لتفسد ما بيننا وبينه من مودّة ومحبة وإجلال وتقدير رحمه الله رحمة واسعة وأحسن إليه، وفي العام التالي وجدت نفسي أترشح وأدخل اتحاد الطلبة وأصبحت على رأس النقابة بالمعهد وعضواَ في النقابة على مستوى مدينة مصراتة، وحضرت مؤتمر اتحاد طلبة ليبيا العام الذي عقد في سبها في تلك السنة.
ودخلت في دوّامة وحالة من القلق والتناقض ومحاولة التوفيق بين حالتين لا يمكن لهما أن تجتمعا في قلب واحد؛ فمن ناحية كنت متأثراً بشعارات القومية وبشخصية جمال عبد الناصر وبما يرفعه القذافي من شعارات الوحدة العربية وتحرير فلسطين وقومية المعركة تحقيق العدالة الاجتماعية (الاشتراكية) وفي نفس الوقت كنت لا أستطيع فهم أو قبول أو تجاوز ما بدأ القذافي يقوم به ويمهّد له داخل البلاد، من تسلّط وعنف وسلب لأموال الناس، وكنت أحياناً أجد التبرير بأنّ تبني القضايا الكبرى مثل قضية فلسطين والوحدة العربية ومواجهة قوى الاستعمار والهيمنة الأجنبية تهون معه بعض المظالم والمغارم فهي ضريبة لا بدّ منها وكنت و زملاء لي نعيش هذه الحالة من المعارضة والموافقة والتبرير والتغليب لأمور على أخرى والتي لم تكن في الحقيقة والواقع تعني إلا السذاجة الفكرية التي ربما يبررها صغر السنّ و قلّة التجربة وكذلك الإعلام المضلّل الذي كان يعزف على وتر العواطف والشعور الداخلي ويملك آلة كبيرة وإمكانات أكبر واستعملت الشعارات المؤثرة والأناشيد التي كتبها المخدوعون والخدّاعون واستفاد القذافي من تراث عبد الناصر الإعلامي بينما كانت الأهداف غير ذلك .
وأذكر أنّني بدأتُ أتحسّس طريقي وأحاول فهم ما يدور حولي وبدأت أقف على شواهد صارخة لا يمكن لعاقل أن يتجاوزها، وتوالت المواقف؛ فقد بدأ القذافي يتجرأ على قضايا دينية ثابتة لا اختلاف عليها مثل الجرأة على السنّة النبوية الشريفة والتحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم بطريقة تثير الاشمئزاز والاستنكار ويصم الفقه والشريعة بالتخلّف ويصف الثقافة والتراث الإسلاميّ بثقافة الأساطير والكتب الصفراء وقام بتغيير التاريخ الهجريّ وجعل من الوفاة – وفاة النبي صلى الله عليه وسلم – تاريخاً جديداً، وبدأتُ أحتك وعن قرب ببعض رموز وعبدة القذافي، ففي إحدى مؤتمرات الاتحاد العام لطلبة ليبيا في فبراير 1980م وكان على رأس هذا الاتحاد في ذلك الوقت أحمد إبراهيم القذافي، وكنت قد أعددتُ وزملائي من أعضاء النقابات الطلابية بالمعاهد الدينية على مستوى ليبيا أعددنا ورقة نطالب من خلالها بفتح مكتب للمعاهد الدينية باتحاد طلبة ليبيا العام وتطوير بعض أمورها ووقفت لأطرح تلك الورقة وقبل أن أكملها إذا بالمدعو أحمد إبراهيم يقول لي في عجرفة وصلف: “هل تعرف ما هي غلطة عبد الناصر؟ – واستمر قائلا– غلطة عبد الناصر أنه لم يذهب إلى الأزهر ويقطع رؤوس من فيه !! ونحن لن نكرر هذه الغلطة” ووصلتْ الرسالة، وأدركتُ أنني أمام مجرم مكانه قفص الاتهام.
وهناك موقف آخر كان الفيصل الذي حسم الموقف عندي فقد كنا في مهرجان رياضي على مستوى المعاهد الدينية أقيم بمعهد القويري الديني بمصراتة وفي إحدى أيام المهرجان وكان يوم الجمعة 11/ نيسان أبريل 1980م جاءني السيد مختار السوسي – رحمه الله– أمين مكتبة المعهد ليقول لي: هل سمعت الخبر؟ فقلت ماذا حدث؟ قال لي متألماً : لقد قتل محمّد مصطفى رمضان منذ قليل وهو خارجٌ من صلاة الجمعة بالمركز الإسلامي بلندن، فنزل الخبر عليّ نزول الصاعقة، وفجعتُ بذلك الرجل الذي عرفته من خلال صوته المتميز وبرامجه بإذاعة لندن، ثمّ عرفتُ عنه الكثير عقب خروجي من البلاد، وحدثت سلسلة اغتيالات على أيدي المجرمين أعضاء اللجان الثورية… عندها كرهتُ القذافي وكلّ ما يمتُّ إليه بصِلة، وعرفتُ أنّه طاغية سفاحٌ ليست له غاية إلا الاستفراد بالسلطة وقتل وسحق كل من يعارضه وما شعاراته التي يرفعها إلا لجر وتوظيف البله والسذج.
كانت الأجواء في بداية الثمانينيات من القرن الماضي شديدة على البلاد فقد انكشف مخطط الطاغية الذي لم يكن له هدف سوى بناء مجده الشخصي على حساب وأنقاض كلّ شيء في ليبيا، وصار خطابه خطاب التهديد والوعيد والاستخفاف بالناس القيم، وبدأ يحشد الأتباع من الرعاع الذين كان يطلب منهم إلغاء عقولهم وقلوبهم وأن يعطوه الولاء التامّ حتى في قتل آهاليهم وذويهم، والذين أفسد بهم الحياة الاجتماعية والدراسية وكانت الهتافات والشعارات في ذات السياق الهتاف لشخص القذافي لدرجة التأليه، واتسع نطاق الكره له ولأعوانه بين عقلاء الناس وخيارهم، ومن مآسي تلك الفترة حرب القذافي على الشعب التشادي من أجل مجده الشخصي، وكانت المأساة فقتل وفقد وأسر آلاف الليبيين، وكنا نلتقي كشباب أغلبنا في نهاية عقده الثاني فكنا نتحدث عما نواجهه ونعيشه من المآسي ونبحث عن المخرج ونتسمع أخبار تلك المحاولات التي كانت تحدث في تلك الفترة وتستهدف إسقاط القذافي وكنا معجبين بتلك المحاولات وكنا نتوقع زواله أو قتله في أي لحظة.
الجامعة وانسداد الأفق :
سنة 1400ﻫ الموافق 1980م نلتُ الشهادة الثانوية من المعهد وتمّ توجيهي إلى كلية التربية بالبيضاء، وقد سعدتُ بوجودي في البيضاء مع أنها بعيدة عن مصراتة لكنها بعيدة أيضاً عن أجواء وضجيج القذافي، وفي كلية التربية بالبيضاء كانت الدراسة هادئة ولا وجود لمظاهر ودعاية القذافي إلا في مظاهر لا تكاد تُذكر.
في مدينة البيضاء وجدت الكثيرين من أبناء مصراتة المقيمين بها سواءٌ كانوا تجاراً وأساتذة جامعات وكذلك وجدت مجموعة من شباب مصراتة الذين جاءوا للدراسة والتدريس بالمعهد الديني بالبيضاء وبكليتي التربية والزراعة، كان هناك الشيخ الجليل الدكتور صالح الطالب – رحمه الله – أحد أعلام وعلماء مصراتة وليبيا عموماً والذي تلقانا بكرمه ولطفه وبشاشته وكان يدعونا كثيراً لبيته لتناول طعامه وسماع نصحه وتوجيهه وكانت غصته بسبب عهد الطاغية لا تخفى، وكان كثير الحديث عن الجامعة الإسمرية بالبيضاء ومشائخها وتاريخها، وكذلك الشيخ مختار الزرقاني الذي كان أستاذاً بكلية التربية، وكان هناك مجموعة من مدرسي القرآن الكريم منهم: بلقاسم مليطان رحمه الله (أحد شهداء مذبحة بوسليم 1996م) وكنت أعرفه من قبل و سالم ياسين الماني رحمه الله (أحد الشهداء بمعركة العمارة بطرابلس في مايو 1984م) و : عبد الله قرقد وبشير هرّوس وعبد الله مَعْلم والطيّب الماني و غيرهم.
دخلتُ في البداية قسم التاريخ إلا أنني انتقلت إلى قسم الفلسفة والاجتماع الذي كانوا يسمونه بناء على تدخّل القذافي وأوامره (قسم التفسير والاجتماع) لأنه كان يتدخل في كل شيء ويرى أن التعريب الصحيح لكلمة فلسفة هو تفسير. وكان لي اهتمام بحفظ القرآن الكريم رغبة وإحساساً بأهمية هذا الأمر فشرعت في هذا الأمر متوكلا على الله تعالى فكنت أذهب لمدرسة الفاروق بوسط البيضاء كل يوم تقريباً فأكتب وأُسمع ما حفظته وتيسر لي الأمر، وكنت أتابع دراستي أيضاً، كذلك وبحكم أجواء البيضاء المتحرّرة نوعاً ما من قبضة القذافي وجدنا متسعاً لممارسة ومناقشة بعض الأفكار التي بدأت تظهر وهي في أغلبها امتداد أو صدىً لما يحدث في المنطقة، وكنا نتبادل أشرطة خطب الشيخ عبدالحميد كشك، فقد كان يشدّنا إليه أسلوبه وفصاحته وتناوله لقضايا حساسة تهمّ أفكارنا وتساؤلاتنا، وفي البيضاء كان هناك خطيبان مصريان، أحدهما هادئ ورصين هو الشيخ زيد بجامع بلال، والثاني أقرب إلى الإثارة والتحريك منه إلى الأفكار والتوجيه هو الشيخ أبوالفتوح عيسوي، بزاوية محمد بن علي السنوسي بالبيضاء.
تمكنت من السكن في إحدى خلوات الزاوية بالبيضاء مما أتاح لي فرصة أفضل من القسم الداخلي للجامعة، الهدوء ومجاورة المسجد، إلا أنّ ذلك لم يحل بيني وبين التواصل مع زملاء الدراسة.
كنا في ظلّ ذلك التعتيم الرهيب والتسلط السياسيّ للقذافي وعناصره نبحث عن شيءٍ لم نتبيّن معالمه بعد، كنا متدينين (ثقافة وانتماء) وكان للدراسة بالمعهد الديني دورها الكبير في طبيعة هذا التدين فمع النزعة إلى السلف – الذي ميزنا بين أقراننا – كنا نرى أهمية الفقه والمذاهب الفقهية وأهمية التراث الفقهيّ، ولم نتأثر بأفكار غلاة الظاهرية وغيرهم ممن كنا نفرّ بفطرتنا من أسلوب تفكيرهم وطريقة تدينهم، لقد كانوا نتاجا طبيعيا لمرحلة التعتيم والإرهاب الفكري الذي مارسه القذافي وأمثاله من حكّام المنطقة، تأثرت إلى حدّ ما بأفكار البنّا وسيّد قطب والإخوان المسلمين، وإن بقيت لي تحفظات وتساؤلات، تأثرت أيضاً تأثراً عميقاً بأفكار ومنهجية وأسلوب الشيخ العلامة الداعية الكبير محمّد الغزالي، الذي كان يصدر عن فهم غزير لحقائق ومعالم الإسلام وكان يحسن مخاطبة الجيل ببلاغته وروعة أسلوبه هذا العَلم الذي ظلمه من لا يحسن الفهم عنه وظنوا به الظنون التي لا تجوز في حق مسلم، ورموه بما هو منه براء واستكثروا عليه ما وسع قبله كثيراً من علماء وفقهاء الإسلام.
واستمرت دراستي الجامعية إلى سنة 1982م وفي تلك السنة حدثت تطورات لم تخطر لنا على بال، ففي يوم 11 أبريل 1982م فوجئنا بحافلات قادمة من مدينة بنغازي، تقلّ مجموعات كبيرة من عناصر اللجان الثورية على رأسها رموز معروفة : علي أبو جازية وهدى بن عامر وغيرهم يدخلون إلى مقر الجامعة ويحشرون الطلبة وأعضاء هيئة التدريس بمبنى المكتبة المركزية واعتدوا بالضرب والشتائم والعبارات النابية على بعض أعضاء هيئة التدريس والطلاب وقد تعرّض الطالب – في ذلك الوقت– حسن الأمين للضرب المبرّح أمام الطلبة وصرّح علي أبوجازية : سيكون اليوم شلال دم، واعتقل بعض الطلبة وطردوا من الدراسة، وتمّ اتخاذ قرار جائر بنقل الكلية إلى بنغازي وعندها وقعت اضطرابات بمدينة البيضاء شارك فيها طلبة الدارس الثانوية، واستمرت الأحداث ثلاثة أيام حيث كانت إذاعات القذافي تعلن : لا تزال القوى الثورية تقوم بتصفية اليمين الرجعي بمدينة البيضاء. لقد قرروا نقل كلية التربية للبيضاء بحجة أنها خارج الدائرة الثورية ولا يمكن السكوت على ذلك، وأجريت امتحانات نهاية الفصل الثاني ودخلت الامتحان إلا أنني كنت قد عقد العزم على ترك الدراسة ومغادرة البلاد.
مغادرة الوطن والالتحاق بالمعارضة :
لم يكن قرار مغادرة البلاد قراراً سهلاً – في اتخاذه وتنفيذه– لشاب في مثل سني، فذلك يعني مفارقة الأهل والوطن الحبيب والدخول في مجهول لا يعلمه إلا الله، والسفر إلى الخارج في ذلك الوقت يكاد يكون إحدى المستحيلات، بسبب القيود والإجراءات، والقبضة الأمنية التي كانت لها اليد الطُولى في كل شيء، ولكنا توكلنا على الله، وقررنا أنا وأخي سالم ياسين الماني أن نغادر البلاد، واغتنمنا فرصة الحجّ سنة 1402هـ – 1982م ، وجمعتُ ما وفرته من نقود وبالكاد غطى ثمن التذكرة وما يأخذه المطوّف وبقي شيء قليل للمصروف، وفي ذلك العام ولأول مرّة أقلعت بنا الطائرة من مطار مصراتة (الكلية الجوية) ولا أنسى تلك اللحظات الأخيرة فقد قالت لي جدتي – أمّ أبي– : “لا أظنني سأراك ثانية” وكأنها تعلم ما قررتُه ولم أبلغ به أحداً، وكانت لحظات صعبة على النفس كادت تجعلني أتراجع عن رأيي، حين ودعت والدتي وإخوتي الذين كانوا صغاراً وأخذني الوالد بالسيارة مع بعض الأقارب فجر ذلك اليوم منتصف شهر سبتمبر سنة 1982م إلى مستودع المواصلات بشارع بنغازي، وحين ودّعني والدي قال لي كلمة واحدة: “كن رجلاً” ومن هناك إلى المطار وعلى سلم الطائرة كان أفراد الأمن بالمرصاد أين البطاقة أين الـ… وتفرّس بعضهم في وجهي مستغرباً الحجّ من مثلي، ولكني أخيراً صعدت إلى الطائرة وجلست على أحد كراسيها، وداهمني شعور بالفرحة الممزوجة بالحزن العميق والغصة والحسرة، وتراءت لي صور الماضي الذي تحمله ذاكرتي والمستقبل الذي أتخيله دون مقدمات، وأقلعت الطائرة وأقلعت أنا بطائرتي الخاصة أجوب الآفاق وأستشرف المستقبل وأكفكف دموع الأسى واللوعة، لقد كان قرار الهجرة كبيراً وخطيراً، ولكن لابدّ مما ليس منه بدّ، وكان معنا في تلك الرحلة –موافقة – أخي وصديقي العزيز بلقاسم مليطان رحمه الله (أحد شهداء مذبحة أبي سليم فيما بعد) وكانت معه أمه التي انتقلت إلى رحمة الله في تلك الحجة، ووصلنا أرض الحجاز ودخلنا مكة فجراً، فصلينا الصبح وأدينا طواف القدوم ودخلنا في مناسك الحج، وفي إحدى الليالي التقيت شخصين، عرفتهما فيما بعد، أحدهما فايز جبريل والآخر يوسف المجريسي، تحدثا إلي قليلا ثم التقينا ثانية، وذكرا لي أنهما ينتميان للجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا، وقدما لي بعض المطبوعات، ثم تواعدنا مرّة أخرى وذهبت معهما إلى فندق الحرم –على ما أذكر– وهناك كان في انتظاري أحمد حواس رحمه الله الذي رأيته يومها لأول مرّة وكنت قد سمعت عنه في الأخبار أنه قد استقال من منصبه كقائم بالأعمال في السفارة الليبية بغويانا وأحسست أني أعرف هذا الرجل منذ زمن بعيد، تلقاني ببشر وترحاب وابتسامة لا تفارقه إلا في ساعات الجدّ تحدثنا وسألني عن البلاد وعن الأوضاع وعن سبب خروجي وعن إمكاناتي التي أستطيع تقديمها للجبهة فأخبرته أنني لم أعد أستطيع البقاء في البلاد وأن الأجواء أصبحت خانقة والدراسة في ظل عسف وبطش أحمد إبراهيم وأشكاله هي مأساة لا توصف وأنني أرغب مواصلة دراستي ورغبتي وأخي سالم الماني أن ندرس بمكة أو المدينة، وأننا نسعى في هذا الصدد إلا أن الأمور غير واضحة وامتد بنا اللقاء، وفي الأثناء دخل الدكتور محمد يوسف المقريف، ورأيت كذلك الاستاذ علي عبد الله الضراط والأستاذ علي أبو زعكوك و وجدي الأمير وبعضاً من مناضلي الجبهة الذين حضروا في ذلك الموسم بغرض الحج والاتصال بالليبيين وعرض أفكار وبرنامج عمل الجبهة، وقد شعرت بعد أيام أنني تحت مراقبة عناصر أمن القذافي الذين انتشروا بين الحجيج الليبيين يرصدون ويتابعون ويتناقلون وينقلون ما يسمعون، وعندها أشعرتُهم بأنني سأعود للبلاد وأبحث عن بعض الأشياء لأعود بها ومع ذلك ظلّوا يراقبونني، وقبل الذهاب إلى المدينة عقب انقضاء مناسك الحج، التقيت أحمد حواس مرّة أخرى، فسألني عن إمكانية العودة والرجوع إلى ليبيا لخدمة القضية من الداخل، فقلتُ له: أنا الآن تحت المراقبة وقد شعروا باتصالي بكم نتيجة للوشاية من بعض الرفاق، فإذا رجعتُ فالمصير معروف، وليس لنا إلا البحث عن حلّ آخر، وأخبرتُه أننا التقينا الشيخ عبد العزيز بن باز وأنه بعثنا إلى رئيس جامعة أم القرى، لكننا لم نحصل منه على ردّ إيجابي، فضلا عن أننا لا نحمل جوازات سفر إنما هي وثائق الحج فقط، وعندها قال لي إياك أن تبقى هنا فسيظنون أنكما من عناصر أمن القذافي وسيكون مصيركما كآل زعطوط الذين أعيدا إلى ليبيا عقب موسم الحج العام الماضي، وأعطاني رقم تلفون السيد مصطفى الرجباني في جدّة لأتصل به ولترتيب إجراءات السفر إلى السودان، عقب ذلك ذهبنا إلى المدينة المنورة.
وفي المسجد النبويّ التقيت أخوين مسلمين من جزر القُمُر كانا يدرسان معي بمعهد القويريّ الدينيّ بمصراتة، محمد عبد العزيز وعلي مداهومي واللذان انتقلا معي إلى مقرّ إقامتنا بالمدينة، فتحدثنا طويلا، وفي أثناء الحديث ذكرا لي أنه بإمكاننا أن ندرس بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وأن على رأس هذه الجامعة رجلاً يحب طلبة العلم ويساعدهم على دخول الجامعة، هو الدكتور عبد الله العبيد، فسألتهما وكيف يمكن لقاؤه ؟ قالا: ما عليك إلا أن تصلي الظهر بمسجد الجامعة وستجده هناك، وفعلاً صليت الظهر هناك، ودلاني على الرجل فانتظرته خارج المصلى وحين خرج بادرته وسلمت عليه فرد التحية وسألني عن أمري فقدمنا له طلباً نشرح فيه ظروفنا ورغبتنا في إتمام الدراسة أنا وأخي سالم الماني، فقرأ الرجل الورقة، وأخرج قلمه ودوّن عليها ملاحظة تقول: “إلى عمادة شئون الطلبة للقبول” فشكرته وودعته، إلا أننا وبعد دراسة الأمور قررنا تأجيل هذا الأمر والسفر إلى السودان، فاتصلت بالدكتور مصطفى الرجباني المقيم بجدة، والذي رتب لنا إجراءات السفر وحجز لنا إلى الخرطوم.
…
يتبع في الجزء الثاني
_______________
المصدر: قناة غريان الحرة (2013)