ضابط متقاعد

من منطلق المشاركة في الحوار الدائر حاليا حول محاولات إدماج الثوار المقاتلين في القوات النظامية للجيش الليبي، وبعد المحاولات العديدة التي فشلت في إدماج الثوار في المؤسستين العسكرية والأمنية، برز الحديث من جديد وبقوة لإعادة إحياء فكرة الحرس الوطنيوتفعيل القانون رقم 2 لسنة 2015 بشأن إنشاء جهاز الحرس الوطني الذي أصدره المؤتمر الوطني العام، ولعل الوقت مناسب جدا في هذه المرحلة التمهيدية لإنجاح هذه المحاولة لإدماج القوات المساندة (ثوار 17 فبراير) في مؤسسات الدولة الرسمية ونخص الحديث في هذه الورقة إدماج القوات المساندة ضمن مؤسسة الجيش الليبي.

لا شك أن الفكرة ليست جديدة وهي مجربة وناجحة في العديد من الدول التي عانت من الحروب الأهلية، ونجاح التجربة في بلادنا سيعتمد على مجموعة من المبادئ، ومنها:

أولا: موقع قوات الحرس الوطني في الهيكلية العامة للجيش

ينبغي أن تبنى الهيكلية على العلوم العسكرية بعيدا عن المحاصصة، وهي في رأينا كالتالي:

ـ القائد الأعلي للجيش الليبي هو رئيس الدولة أو المجلس الرئاسي في هذه المرحلة الانتقالية، وهذا هدف مهم لثورة 17 فبراير وهو أن تكون القيادة العسكرية تحت إمرة السلطة المدنية المنتخبة.

ـ يليه في المسؤولية رئيس الأركان العامةويتبع مباشرة للقائد الأعلى، ويتولى قيادة وإدارة أجهزة الجيش الليبي بمختلف تخصصاته، وتشمل قوات الجيش النظامية والقوات شبه العسكرية (قوات الحرس الوطني)

ـ يتبع رئيس الأركان العامة رؤساء الأركان للقوات المختلفة وهي البرية، والجوية، والبحرية، والدفاع الجوي، والحرس الوطني. (هذه الأركان تشمل جميع فروع الجيش وهي

المشاة والمدرعات، والمدفعية، والطيران، والهندسة، والإتصالات)، بلإظافة لقوات الحرس الوطني .التي تختلف عن بقية القوات في مهامها لكونها قوات شبه نظامية

ـ رؤساء الأركان الخمسة ينبغي أن يكونوا جميعا من القيادات العسكرية الحاملين لرتب عليا والحاصلين على مؤهلات لقيادة الأركان المختلفة. وبالنسبة لرئيس أركان قوات الحرس الوطني فينبغي أن يكون هو أيضا من القيادات العسكرية المؤهلة وله نفس المواصفات، بالإظافة إلى كونه من القادة الميدانيين من الضباط العسكريين الذين تولوا قيادة ثوار 17 فبراير.

ثانيا: مهام قوات الحرس الوطني

ـ ينبغي أن يكون واضحا بأن ركن قوات الحرس الوطني له مهام تختلف كثيرا عن بقية القوات النظامية، ففي زمن السلم تبرز مهام قوات الحرس الوطني حيث تتولى مهام تتناسب مع تكوينها كإعادة الإعمار، وحماية المدنيين أثناء الكوارث الطبيعية، وحماية الحدود وغيرها من المهام المدنية والانسانية الأخرى، أما في زمن الحرب، فتعود لطبيعتها الأصلية وهي قوات مساندة للقوات النظامية،

ـ يتم توزيع القوات والمعدات في المناطق العسكرية المختلفة بحيث تضم كل منطقة عسكرية معسكرات للقوات النظامة سواء قواعد برية وجوية وموانئ بحرية وغيرها من قوات الدفاع الجوي وحرس الحدود، وحسب الموقع الجغرافي للمنطقة العسكرية.

أما قوات الحرس الوطني فلها معسكرات خاصة بها في المناطق التي تتمركز بها ولكن دورها محلي ولا يجوز لها أن تقوم بأية أعمال عسكرية خارج منطقتها العسكرية الخاصة بها.

ـ نوعية وكيفية التدريب لقوات الحرس الوطني تختلف عن القوات النظامية، بل ينبغي أن تنسجم مع مهامها وتكوينها كقوات مساندة في زمن الحرب، حيث أنها تضم قوات شبة عسكرية ومن أفرادها بعض المدنيين الذين يقدمون خدمات محددة لهذه القوات سواء في زمن السلم أو الحرب.

ـ لقوات الحرس الوطني دور مهم في المناطق الحدودية وتحديدا في عمليات متابعة المهربين والهجرة غير النظامية ومقاومة الحركات الإرهابية العابرة للحدود وغيرهامن الأعمال التي تتميز بها المناطق الحدودية.

ـ لكون قوات الحرس الوطني مساندة للقوات النظامية فإن الانظمام إليها يكون حسب الرغبة وخاصة في زمن السلم، أنا تسليحها فينبغي أن يتناسب مع أدوراها، وألا تفوق إمكانيات وحجم القوات النظامية في المنطقة العسكرية.

ـ وأخيرا، فإن القيافة العسكرية لقوات الحرس الوطني ينبغي أن تختلف وتتميز عن قيافة القوات النظامية، بل أن التراتبية التنظيمية في هذه القوات لابد أن تختلف وتعتمد على معايير مختلفة.

ثالثا: قوات الحرس الوطني ومهمة الخدمة الوطنية

جميعنا، عسكريون ومدنيون، نتذكر الطريقة التي تبناها النظام السابق في التجنيد الإلزامي، بعسكرة الجامعات والثانويات والمعاهد، وغيرها من المآسي التي أفرزتها تلك المرحلة بالنسبة للمواطن الليبي، وخاصة فيما يتعلق بتجنيد المرأة الليبية، وبسبب الممارسات الردئية التي سادت في معسكرات التدريب مما أحدث حالة من القهر والإذلال للإنسان الليبي، وبالتالي الإنفصام الذي ترسخ في قلوب ونفوس المدنيين من العسكر.

ولذلك، يمكن لقوات الحرس الوطني، أن تمثل البديل الناجع لفكرة التجنيد الإلزامي بالإكراه، بحيث تضمن قوات الحرس الوطني للمواطن الإحترام والتقدير والتعامل الحضاري أثناء التدريب وعند أداء واجب الخدمة الوطنية، ويتم ذلك بصورة طبيعية وفعالة وبدون أن يؤثر واجب الخدمة الوطنية على سير وتطور الحياة الشخصية للمواطن، فلا يضطر إلى الإنقطاع عن التحصيل العلمي في المعاهد والثانويات والجامعات كما لا يضطر إلى التخلي عن أحلامه في التعليم العالي أو في ممارسة النشاط المهني في القطاعين الخاص والعام.

مؤسسة الحرس الوطني هي القادرة على جعل الخدمة الوطنية تجربة رائعة ومفيدة يعتز بها المواطن وتوفر له الحصول على العديد من المهارات التي تعود عليه وعلى مسيرته التعليمية والوظيفية بالعديد من الفوائد، مما ينمي حياته الشخصية والعملية، وبالتالي ينضج كشخصية مدنية.

رابعا: دور الحرس الوطني في مرحلة إعادة بناء الجيش الليبي في ظل التشظي القائم

لقوات الحرس الوطني المكونة من القوات المساندة ضمن طرفي النزاع المسلح دور مهم جدا في مرحلة إعادة بناء الجيش الليبي، وذلك لصعوبة مهمة بناء الجيش الموحد، حيث أن القوات المساندة كانت تمثل الأغلبية العددية من المقاتلين أثناء المواجهات المسلحة سواء في مرحلة الثورة أو ما بعدها، وحيث أن عملية بناء الجيش تتطلب التزام القوات التي شاركت في القتال بالحرص على تحقيق السلم في الوطن، ولذلك فإن قوات الحرس الوطني المكونة من القوات المساندة من الطرفين هي الأقدر على تكوين النواة لبناء جيش موحد يضم في صفوفه أبناء الشعب الليبي من كافة المناطق، فالتفاهم بين القيادات العسكرية دون التصالح بين القوات المتحاربة لن يؤدي إلى تحقيق هدف توحيد قوات الجيش الليبي.

ولعل أعود لأؤكد على أن نجاح جهود بناء الجيش يتطلب شروط أساسية لا يمكن تجاوزها، ومن أهمها:

أـ الضرورة الملحة لإعادة تحديد وجهة ولاء الجيش الليبي

كما ذكرنا فإن أغلب القوات التي شاركت في العدوان على بنغازي ودرنة والجنوب الليبي والعاصمة طرابلس كانت ميليشيات تدين بالولاء لمناطقها وقبائلها من جهة، وأغلب القوات المساندة كانت تدافع عن مدنها ومناطقها، وبالتالي يمكن القول بأن أغلب القوات التي قد تنخرط في إعادة بناء الجيش كانت تدين بالولاء للقبائل والعشائر والمدن والمناطق الجهوية، وهذا ما ينبغي رفضه وتغيير وجهة ولاء المقاتل في الجيش الليبي للوطن أولا وثانيا للقيادة العسكرية التي تلتزم بولائها للوطن والدستور والسلطة المدنية.

ب ـ إعادة تعريف العقيدة العسكرية للجيش الليبي التي تختلف عن مرحلتى دكتاتورية العسكر قبل وبعد ثورة فبراير

العقيدة العسكرية  هي الفكرة الأساسية للجيوش الوطنية، وهي تصف مُجمل الأفكار والمعلومات  العسكرية  التي يقبل بها  الجيش  كإطار منظم للعمل خلال حقبة زمنية محددة. وهي تحدد بوضوح استعداد قوات الجيش للدخول في صراع مسلح مع أعداء الوطن، وتحدد أيضا طرق الاشتباك المتبعة والمفروضة عند القيام بالمهمات العسكرية ضد العدو.

ولكن القوات التي حاصرت ودمرت مناطق في بنغازي ودرنة وقصفت مناطق وقرى في الجنوب الليبي ثم تجرأت على محاصرت العاصمة وتدمير مناطق سكنية فيها وسببت في تهجير مئات الألاف من المواطنين الليبين، وثبت دوليا أنها قامت بجرائم حرب ضد الإنسانية بقصف الأحياء السكنية وقتل المدنيين واغتيال العديد منهم وردمهم في مقابر جماعية مخالفة لكل الشرائع والقوانين الدولية.

هذه القوات المكونة من ميليشيات ومجموعات متطرفة اعتمدت في ذلك على عقيدة عسكرية فاسدة تنطلق من التالي:

ـ هذه العقيدة تعاملت مع قوات الثوار التي دافعت عن مدن بنغازي ودرنة وطرابلس بــ ميليشيات إرهابيةو داعشو القاعدةواعتمدت في توصيفها على تعريفات ظالمة مصدرها أجهزة مخابرات دول الثورة المضادةالتي عرفت بـ محور الشر العربي

ـ هذه العقيدة الفاسدة مكنت لجماعة دينية متطرفة تعرف بـ (المدخلية) أن تدخل تحول خلاف سياسي حول السلطة في ليبيا إلى خلاف دينيوذلك أن هذه الجماعة تم إنشائها من قبل المخابرات السعودية وقد أدت إلى تقسيم المجتمع الليبي عقائدياحيث وَصَفت من يخالف من يعتبرونه ولي أمرهم بـ الكفارو الخوارجوتلك أوصاف لها مدلولات غريبة عن المجتمع الليبي، بل أن جماعة المداخلةهذه استطاعت أن تحشد الكثير من العناصر المغرر بهم، وتمكنت من السيطرة على عدد من المعسكرات ومخازن السلاح والذخائر، سيكون من الصعب حصرها وتجميعها وتدميرها.

ـ هذه العقيدة الفاسدة تم توظيفها من قبل ضباط ميليشيات الكرامةلتمكين دول إقليمية ودولية من السيطرة على مناطق شاسعة في ليبيا، وبناء قواعد جوية ومعسكرات تابعة لها في ليبيا، وبالتالي تحول الصراع السياسي إلى ما يعرف بـ الحرب بالوكالةمكنت بعض الدول من تحشيد مقاتلين مرتزقة ودعمتهم دويلة الإمارات التي تستنزف ثروات الليبيين السريةفي مصارفها، واستعملت أموال الليبيين في تدمير ما تبقى من بنتهم التحتية التي تركها النظام السابق في حالة يرثى لها، ونتج عنها قتل وجرح الألاف، وبتر أعضاء آلاف أخرى، وتدمير آلاف البيوت والمستشفيات وبعض المساجد عبر قصف عشوائي لطيران أجنبي استمعل في قصفه بعض الأسحلة المحرمة دوليا.

كل ذلك بسبب فساد العقيدة العسكرية الفاسدة للضباط الذين قادوا هذه الميليشيات وبرروا لأنفسهم القيام بجرائم حرب لم يعرف لها مثيل في تاريخ القديم والحديث.

إذن إعادة بناء الجيش لن تتم بمجرد إصدار أوامر للضباط والجنود الذين انضموا للقوات المسلحة في زمن النظام السابق وقام العديد منهم بالدفاع عن الدكتاتور ونظامه، وأيضا شاركوا في الحرب بالوكالة وأصبحوا جميعا من المرتزقة.

إن إعادة بناء الجيش تتطلب، بالإظافة إلى تصحيح وجهة ولاء الضباط والجنود، تحتاج أيضا إلى تبني العقيدة العسكرية الصحيحة التي تعتمد على المبادئ التالية:

ـ حماية السيادة الوطنية والتصدي لأي قوى تستهدف سيادة الدولة المدنية وإقحام أطراف الصراع السياسي في ليبيا في حروب بالوكالة

ـ حماية مؤسسات الدولة المدنية من الاعتداء الخارجي والمحافظة على الحدود البرية والمياه الإقليمية والمجال الجوي للدولة، وعدم السماح لأي طرف إقليمي أو دولي بالتدخل في شؤون البلاد مهما كانت الدعاوي لتبرير ذلك.

ـ الانحياز للشعب في نضاله ضد الاستبداد وعدم الانخراط في الانقلابات العسكرية بمبرر تمكين الشعب من السلطة والثروة، وترك المواطنين يقومون بتصحيح انحراف مسار الدولة المدنية بالطرق السلمية وأن يتخذ الجيش الحياد أثناء الإنتفاضات الشعبية ضد النخبة الحاكمة الفاسدة.

__________

مقالات

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *