المناضل علي بشير يتذكر: رفقة الشهيد في رحلة عودته إلى الوطن وملابسات استشهاده، وأحداث أخرى
هذه سردية أحد رفاق الشهيد الذين عبروا الحدود معه نحو الوطن، يحكي فيها تجربته مع مجموعة بدر وعن دخولهم إلى أرض الوطن وعن ملابسات استشهاد الحاج أحمد، وعن اعتقاله ورفيقه الآخر في تلك الرحلة، وعن تجربته في سجن بوسليم وغيرها من الذكريات.
بقلم علي بشير حمودة
الجزء العاشر
قد رأيت عبد العزيز المقريف عدّة مرات عن بعد لكنني لم ألتق به إلا من خلال المراسلة حيث جرت بيني وبينه مراسلات حول بعض المواضيع التي تهمنا وكان مريضا يعاني آلاما شديدة ثم أخذ هو ورفيقه (جاب الله) إلى جهة مجهولة والأرجح في نظري أنهما كانا بعد ذلك ضمن شهداء مذبحة أبوسليم، أو تم التخلص منهما مع منصور الكيخيا عقب ذلك والله أعلم ويفترض أن تتضح هذه الأمور الآن عقب القبض على معظم المسئولين عن هذه الأعمال في عهد القذافي، و في هذه الفترة أيضا جيء بيونس بلقاسم أحد عناصر المخابرات الليبية منذ عهد المملكة ثم استمر في عمله إلى أن وصل إلى شبه وزيرٍ للداخلية في عهد القذافي وتولّى التحقيق ومتابعة بعض الأمور خلال أحداث مايو 1984م وكان له دور استخباراتي على الساحة الألمانية، ثم حدث معه شيء لا أدري تفاصيله حتى الآن أدّى إلى ابتعاده عن القذافي.
وحسب ما سمعت أنه استدرج إلى تونس حيث تمّ تسليمه وترحيله لليبيا، وقد رأيته واقفاً في القاطع المقابل لنا سنة 1992م وحوله أغراضه الخاصّة أي أنه كان ينقل من مكان لآخر ولا أدري ماذا حدث معه بعد ذلك. ثم كانت الاعتقالات الكبيرة التي طالت الكثير من الشباب الذين صنفوا (كجهاديين) سنة 1992م وما تلاها وجيء بالكثير منهم إلى القاطع المقابل لنا وكان من بين هؤلاء صهري (زوج أختي) علي الحسين سليمان عقب زواجه بحوالي ثلاث سنين تاركاً وراءه طفلة وطفلا (أنيسة وحسن) وكان يعاني مرض السكري وقد تمكنت من إرسال بعض الأدوية إليه عن طريق الحرس فتحي المعرفي – رحمه الله – ثم علمت فيما بعد حين التقيت ببعض شباب الجماعة الإسلامية المقاتلة أنه كان ضمن هذا التنظيم، وقد عومل هؤلاء الشباب بكل عنف وقسوة تمثلت في اكتظاظ الغرف والمنع من الخروج للهواء والضرب المستمر الممنهج عند توزيع الوجبات وكم كنا نتألم لما يحدث ونسمع صراخ المعذبين ونشوة الحرس وهم يتلذذون بما يعملون، ثم أخذ هؤلاء الشباب إلى السجن المركزي المجاور لنا ليلقى معظمهم نحبه بعد ذلك في المذبحة.
مضت علينا سنوات 93 – 94 – ثمّ جاءت سنة 95 والتي مضى معظمها ونحن في حالة شبه عادية من حياة السجناء يزورنا الأهل مرّة في الشهر ونخرج للساحة ونستفيد من وقتنا في الأمور التي سبق لي ذكرها من قراءة ورياضة وحوارات ونقاش وتحليل للأوضاع وبناء على ذلك التنبؤات بما سيكون ، وكان واضحاً أن الأمور صارت تتجه نحو التأزم وصارت القضايا التي تأتي إلى السجن هي قضايا مسلحة تستهدف النظام ورأسه، وخلال هذه الفترة أيضاً دخل القذافي في دوامة ما عرف بقضية (لوكيربي) التي اتهم فيها المقرحي وفحيمة بإسقاط طائرة البانام الأمريكية وكذلك طائرة الـ يو تي إى وفُرض الحضر الجويّ الذي منع الطائرات الليبية من مغادرة الأجواء الليبية، وأصبح الليبيون يعانون ويقفون على بعض نتائج سياسة القذافي.
ومن ضمن ما حاول خدم القذافي القيام به – وكان هذا ينبئ عن غباء سياسي وأمنيّ لا نظير له – أنهم سعوا لفبركة قصة لإلصاق تفجير الطائرتين بالمعارضة الليبية وبالجبهة ، أي أنّ المعارضة قامت بعمل (إرهابي) لينسب للقذافي ويدفع ثمنه، وقد استدعى الأخوان: أحمد الثلثي ومحمد مخلوف من قبل عبدالله السنوسي وخيري خالد ليعترفا بذلك أمام قاض تحقيق فرنسي ، وقد أخبرني أحمد الثلثي رحمه الله أن عبدالله السنوسي تلقاه بالأحضان وطرح عليه خيري الفكرة فقال لهما أحمد : هذه لعبة سخيفة، ورفض الرجل التعاون معهما أما محمد مخلوف فقد قابل القاضي الفرنسي وحينها عرضت حقيبة المتفجرات التي ضبطت عند محمد مخلوف عندما قبض عليه وكانت النتيجة عكسية تماماً، حين أصبح الأمر دليل إثبات على تورّط القذافي ، والأخ محمد مخلوف لم يكن سهلا فقد عمل في سلك النيابة والقضاء ويعرف كيف يتصرف باقتدار في مثل هذه المواقف.
وأصبحت قضية لوكيربي حديث الساعة وهي قضية خطيرة بالنسبة لنظام القذافي الذي سخر كل إمكانات البلاد لينجو من عواقبها واستجدى القريب والبعيد وكان من تداعياتها ما كان ولست هنا بصدد الحديث عن تفاصيل لوكيربي ولكنني أتحدث عن علاقتها بنا ، ومن الأشياء التي لا زلت أذكرها أن السيد بلقاسم المشاي أخبرني عقب استدعائه من قبل عبدالله السنوسي وأثناء انتظاره للمقابلة وجده يتحدث في التليفون وسمعه يقول بالحرف : “لو نسلموهم يقولوا اللي هناك” وفهم المشاي منها : لو يتم تسليم المقرحي وفحيمة فسيعترفان بكل شيء.
ثم جاء نوفمبر 1995م وتحديدا ليلة 23 منه، حيث تمكن أحد عشر سجينا من الفرار من الغرفة ثم من السجن، وهي قصة لا يكاد يصدقها عقل، ولكنها حقيقة سمعتها – فيما بعد – من الذين فرّوا من السجن بنفسي، ففي تلك الليلة وفي ساعة متأخرة سمعنا إطلاق نار كثيف وأصبحنا ثاني يوم لنقف على إجراءات تعكس ما كان وحدث في تلك الليلة، حيث دخل الحرس في حالة استنفار واحتياط وتشنج وبدأوا يدخلون ويفتشون ثم سحبت منا الأسرّة وكل الأشياء الحديدية والخشبية وتغيرت المعاملة فكانوا يخرجوننا للتمام فتفتح الحجرة ويؤمر من فيها بالخروج والوقوف ووجوهنا للحائط ثم يأتي الحرس اللئيم : (الثابت والمقطوف و عطية ) وهم في صراخ وتشنج للعدّ والتمام بطريقة تنم عن حالة هستيريا أصابت القوم.
ومن المواقف التي أذكرها جيداً أنه ذات ليلة وهم يوقفوننا إلى الحائط قال السيد أحمد الزبير وكنت بجانبه قال للحرس عطية : هذي المعاملة بعد خمسة وعشرين عام؟!! حيث بلغ الزبير حينها 25 سنة داخل السجن فتلفت عطية يمينا وشمالا ليتأكد أن لا أحد يسمعه ثم قال: “خمسة وعشرين عام تعارضوا فيهم، أما احنا 25 عام نخدموا فيهم” وهو يعني بقوله: لا تستغرب هذه المعاملة لأنكم ضد النظام القائم، أما الأغرب فهو ما حصل معنا كحرس من عقوبة وتنزيل رتب ولم تشفع لنا كل سنين العمل في خدمتهم.
وقصة الهروب هذه خلاصتها : أنّ أحد السجناء بالحجرة رقم 7 في القاطع الأول من السجن المركزيّ عثر أثناء خروجه على بقية قطعة منشار حديديّ فالتقطها ورجع بها للحجرة وجاءت فكرة الهروب وعمل فتحة في شباك الزنزانة المطلّ على الفناء الخارجيّ للسجن وعن طريق الأسرّة الحديدية بالحجرة تمّ الوصول إلى الشباك فكانوا ينحتونه بتلك القطعة الصغيرة أياماً عديدة إلى أن تمكنوا من قصّ حوالي نصف الشباك وأبقوه كما هو حتى لا يلاحظه أحدٌ، والعجيب أنّ من يرى تلك الفتحة في الشباك لا يتصوّر أنّ أحداً يستطيع النفاذ منها مهما رقّ ودقّ جسمه ولكنها عزيمة لا يعوقها شيء بعد تيسير الله تعالى، وحتى ينجح التنفيذ دون عوائق تحبطه فقد اتفق المتفقون على الفرار على أن يقوموا بعملية تفاهم بحيث يكونوا جميعا تلك الليلة في نفس الحجرة وكان هذا يقتضي أن يأتي سجين من حجرة أخرى مكان سجين سيخرج من هذه، ولعل سائلا يقول: كيف كان يتم هذا التبادل للمراكز وسط سجن أبي سليم؟
لقد السجناء يخرجون للساحة وعند الدخول يمكن أن يتم ذلك بشرط أن يكون عدد الحجرة هو هو حتى لا يفطن الحرس عند التمام إلى نقصان أو تغير العدد، وبدأ تنفيذ العملية كما خُطط لها؛ فعند الساعة الرابعة إلا ربعاً قبيل فجر يوم 25 نوفمبر 1995م صعد الشباب إلى النافذة وخرجوا منها واحداً تلو الآخر؛ ثلاثة عشر سجيناً وهم : محمّد أبوشمّوا ومحمّد الرَّجِيلي وسلامة العكوّكي ومحمود الكصك وعبد المنعم الضراطيّة (هؤلاء الخمسة من إجدابيا) و وليد سويسي ويوسف قايد وأنور الجامعي وعبدالسلام الشاعري (الأربعة من درنة) وسالم الشرّاني (من البيضاء) و عبدالجليل السعيطي (من منطقة عمر المختار) و عبدالله خميس الزلاوي (بنغازي) ثمّ نزلوا على حائط قريب ومنه على مبنى الإدارة ثمّ نزلوا أرضاً.
وكانت الخطة أنهم إذا ما حدثت المواجهة داخل سور السجن فسيكون الجميع صفاً واحداً حتى الموت، وإذا تمكنوا من الخروج فلكلٍ رأيه وخطته، وبعد النزول أرضاً يبدو أنّ أحد الحرس قد شعر بشيء ما فتقدّم لينظر فانقض عليه يوسف قايد بحديدة في يده وضربه ضربة أفقدته السيطرة وانتزع وليد سويسي البندقية من الحرس وتوجّه الشباب نحو البوابة الرئيسية وهناك جرى اشتباك سقط أثناءه مقدّم ورئيس عرفاء قتيلين، وتكمن السجناء من اقتحام البوابة والخروج ولم يصب منهم إلا وليد سويسي عقب خروجه، لكن سجينين من الثلاثة عشر آثرا ألا يخرجا من البوابة وأن يصعدا السور ويقفزا فأصيبا بكسر وهما: يوسف قايد وعبدالله خميس الزلاوي وقبض عليهما آخر النهار بعد أن تمكنا من دخول طرابلس، وتفرّق البقية، في أنحاء مختلفة.
ثمّ تمكن أمن الطاغية من القبض على 7 سجناء في اليوم الأول، وفي اليوم الثاني قبض على فهيم الجدايمي في مدينة الخمس عقب اكتشافه وإطلاق النار عليه، وتمكن وليد سويسي – وكان جريحاً – من الاستيلاء على سيارة ووصل بها إلى مستوصف قرب بن وليد ، لا أدري من جهة المردوم أم السدادة ؟ وطلب من الموجودين علاجه بالقوة لكن أحد الممرضين اتصل وأبلغ عنه، فجاءت قوة أمنية من مصراتة على رأسها سالم المقروص وعلى الصادي وما إن دخلا للقبض على الأسد الجريح حتى بادرهما بالرصاص فكان نصيب المقروص رصاصة بين عينيه جعلته يسقط قتيلاً أما الصادي فقد جرح في كتفه ، وقبض على سويسي.
كما تمكنّ سالم الشرّاني وأنور الجامعي من الوصول إلى سرت وبقيا هناك حتى جاءهما آخران من معارفهما لنقلهما من هناك وصادف ذلك وجود الطاغية في سرت وأثناء التفتيش عثر على السلاح في السيارة وحدثت مواجهة أسفرت عن استشهاد الأربعة، وتمكن أبوشمّو والرّجيلي من الوصول إلى إجدابيا وبنغازي ثم سلما نفسيهما عقب الضغط على أسرتيهما والوصول إلى اتفاق بأن لا يصيبهما مكروه، أما سلامة العكوّكي و ومحمود الكصك فقد تمكنا من الخروج من ليبيا ، وقد توفي محمود خلال السنوات الأخيرة (2008م تقريباً) في بريطانيا، بينما لا يزال العكوكي على قيد الحياة،
عومل من قبض عليه من بقية السجناء خصوصا الجرحى منهم معاملة هي غاية في العنف والشدّة والقسوة والانتقام وكان الضرب على ثلاث وجبات واستمر ذلك حتى كانت مجزرة أبي سليم حيث قضوا خلالها مع بقية الضحايا، وذات ليلة دخل الحرس ونادوا على اسمين من قاطعنا هما : النقيب جمعة قنّص العجيلي والطاهر عمار المليان الشريف من براك الشاطي، الأول كان في قضية عسكرية سنة 81م عرفت بقضية المقارحة والآخر كان في قضيتنا مايو 1984م والاستداعاء في مثل هذه الظروف والأحوال يثير القلق إلا أنّنا علمنا فيما بعد أنه قد أفرج عنهما وهي من الغرائب التي لا تصدّق، وبعد فترة سمح لنا بالخروج قليلاً للعنبر وداخل العنبر فقط، ومنعت الزيارة وانقطعت الأخبار، ومضينا على هذا الحال عدّة أشهر : 12 – 1 – 2- 3 .
وفي منتصف أبريل – تقريباً – سنة 1996م بدأت لجنة مكونة من جهات أمنية مختلفة في استدعاء بعض السجناء من القاطع (قاطع 1) الذي نحن فيه وكان عملها يبدأ ليلاً وكنتُ من أوائل من أخذهم الحرس إلى هذه العصابة التي اتخذت لها مقرّا بحجرة كبيرة جداً بمقر إدارة الشرطة العسكرية قرب المدخل الرئيسيّ لسجن أبي سليم، والذي أتذكره من تلك الليلة أنني أدخلت تلك الغرفة التي كانت مستطيلة وفي نهايتها على يمين الداخل طاولة مكتب خلفها كرسيّ يجلس عليه عبدالله السنوسي وعلى يمينه تصطف حوالي عشرة كراسيّ يجلس بقية أفراد المجموعة.
وأذكر منهم: موسى كوسة ومصطفى الزايدي وفرج أبوغالية ومحمد المصراتي والتهامي خالد وآخرين بعضهم لا أذكره وبعضهم لا أعرفه، وكان واضحاً أنها مقابلة اختبار وتقييم ومتابعة لمواقف السجناء وما إن جلستُ حتى بادرني فرج أبوغالية – متهكماً – : مع من ستدخل في المرّة القادمة؟ (يقصد أنك دخلت مع أحمد حواس في المرّة الماضية فمع من سيكون دخولك إن أطلقنا سراحك؟ ) فقال مصطفى الزايدي : مع سليمان – يقصد الكتور سليمان عبدالله كان أحد قيادات الجبهة، وهنا ضحكتُ بعفوية وسخرية أيضاً فانهالت عليّ نظرات الحقد وكاد بعضهم أن يهجم عليّ وانطلقت عبارات السباب والشتائم من موسى كوسة ثمّ وقال لي الزايدي: تضحك! قلبك ميّت، إنتا المفروض اعدام !! وهنا تدخّل عبدالله السنوسي و دخل على الخط وقال لي: يا علي هل هتفت ضدنا عند القبض عليك ؟! فقلت له: نعم، فقال لي: ماذا تقول بعد هذه السنوات؟ أي كيف تقيّم ما حدث لك؟ فقلت :لقد كان ما كان وأنا أتحمل مسئولية ما حدث لي. وحينها أمر الحرس بإخراجي ويبدو أن هذا تكرر مع غيري بفوارق بسيطة.
ثم جاء شهر مايو و ومن بعده جاء يونيو الذي كانت خاتمته مأساة رهيبة يصعب وصفها وتصوّرها ففي عشية يوم الجمعة الثاني عشر من شهر صفر 1417هـ الموافق للثامن والعشرين من يونيو 1996م دخل الحرس إلى قاطعنا لتوزيع العشاء ولكننا فجأة بدأنا نسمع دويّ إطلاق النار وبكثافة وخرج الحرس من عندنا بسرعة وأقفلت الأبواب ولم نعد نسمع غير الرصاص من حين لآخر وهرولة الحرس ونداءهم بعضهم بعضاً، ولك أن تتخيل الحال في تلك اللحظات التي تقفل فيها الأبواب وتنقطع الأخبار ويدوّي الرصاص وتكون معزولاً ليس بإمكانك أن تعمل أيّ شيء سوى اللجوء إلى الله العليّ القدير وكفى به ولياً وناصراً.
ثم كان صباح اليوم التالي السبت، وعند الساعة السابعة تقريباً دخل الحرس إلى عنبرنا ونادى على زميلنا أحمد عبدالقادر الثلثي الذي كان بالحجرة رقم(5) فأخرجوه وذهبوا به وانتابنا القلق على أحمد فعلاً ومع الساعة الحادية عشرة ضحىً بدأ إطلاق النار وبكثافة شديدة مصحوبة بدويّ بعض الانفجارات وتهيأنا لكل طارئ وتخيل كل منا صورة لما يجري البعض يقول: إنه هجوم على السجن، والبعض يقول: إنه تمرّد وسيطرة السجناء على سلاح الحرس والبعض يقول: إنها إبادة للسجناء والدور علينا بعد قليل، واستمرّ إطلاق النار حتى الساعة الواحدة ظهراً.
ثم انقطع وكنا بعدها نسمع طلقات الأقرب أنها طلقات مسدسات متفرقة بين الحين الحين، ولم نكن ندري ولا نتصور حقيقة ما كان بهذه الصورة والحجم الذي علمنا تفاصيله فيما بعد، وقد تمكن بعض الإخوة – بالعنبر الذي نحن فيه – في الغرف المطلة على السجن المركزي – والذي لا تفصلنا عنه إلا بضعة أمتار – فكانوا من خلال النوافذ يرون الحرس على أسطح السجن المركزي وهم ينتشرون ويطلقون النار، ورأوا بعض أعوان الطاغية يتحركون حول المكان، عبدالله منصور والسنوسي وكوسة ومنصور ضو وغيرهم من القتلة… ومضت مدّة ونحن لا نغادر الغرف ولا يخرج منا إلا عدد محدود للوجبات وبدأنا نسمع بعض التسريبات التي تصل من هنا وهناك ومن خلال فلتات لسان الحرس فبدأنا نكون فكرة عامّة عمّا حدث و لم نتصوّر الأمر بذلك الحجم الذي لا يصدقه العقل ولا يجد له أي إنسان أيّ مبرر مهما كانت الأسباب، وبعد مدّة عرفنا الحقيقة ووقفنا على ما حدث كما حدث من شهود عيان غفلت عنهم أعين الجلاد واستبقاهم الله تعالى ليرووا حقيقة ما حدث في ذلك اليوم الرهيب.
فعقب قصة هروب بعض السجناء في نوفمبر 1995م اشتدت وطأة السجانين بأوامر عُليا على السجناء وتفنّن الحراس في إيذاء السجناء خصوصاً بعد عقوبة بعضهم بإنزال الرتبة أو الحرمان من بعض المزايا ولقد أخبرني من أثق به أنّ الاستفزاز وطرق الإذلال كانت تتم بشكل ممنهج وتصرفات لا يصدقها العقل حتى إنّ المدعو خليفة المقطوف (رئيس توكة حرس) أخذ مصحفاً من أحد السجناء وألقى به – حاش كتاب الله – في برميل القمامة ثمّ التفت إلى السجين وقال له: “آه شنهو أنى” يقصد بما تحكم عليّ؟ فما كان من ذلك الشجاع الغيور إلا أن قال له: كافر.
وبلغ الأمر درجة لم تعد تطاق: سياسة تجويع متعمّدة وامتلاء للحجرات بأعداد كثيرة تصل إلى الخمسين سجيناً في الحجرة الواحدة أو ما يقارب هذا العدد وأمراض تفتك بالسجناء مثل السلّ والبواسير والأمراض الجلدية ومنع زيارة ورؤية الأهل والمصير المجهول إذ لا محكمة ولا أحكام فقط هي التصنيفات (أ– ب– ج) وتتم الترقية أحياناً إلى (أ) لمن يكون له نشاط وغير ذلك من أوضاع السجن التي لا تُحصى، وهنا جاءت فكرة للشباب في الغرفة رقم (9) بالقاطع الرابع بالسجن المركزي وقرروا اتخاذ موقف تجاه هذه الحالة التي لا يمكن أن يقبل بها حرّ لنفسه أو لغيره ورأوا أنّ هذا يكون بالاستيلاء على مفاتيح السجن من الحرس أثناء توزيعهم للوجبات وفتح أبواب السجن والتمرّد والهروب الجماعيّ،
الذين كانوا بهذه الحجرة تسعة عشر سجيناً منهم: 1- محمد غليو 2- الطيب عمر الشريف فيدان (مصراتة) 3- بريك الشيخي (الذي تتحدث عنه والدته مع أخيه سالم في مقطع فيديو) 4- عزّالدّين مرواص 5- أحمد الغربي 6- صلاح المسماري 7- فتحي الفسي 8- خالد كريّم العقيلي (بنغازي) 9- فوزي أبوقادومة 10- علاّق الطبولي (بن وليد) 11- رضا جعودة (طبرق) 12- سعيد الدهمش13- أحمد أبوميزورة 14- أسامة الصيد (البيضاء) 15- عبدالغفار العوامي (الأبيار) 16- حاتم جابر(طرابلس) 17- أحمد البرعصي.
وجاء عصر يوم الجمعة 28 يونيو ودخل الحرس – خليفة المقطوف وعطية الترهوني وعمر الترهوني– للقاطع الرابع لفتح الأبواب وتوزيع العشاء فلمّا جاء دور الغرفة (9) انقض الشباب على الحرس: للاستيلاء على مفاتيح القواطع والغرف ففرّ خليفة المقطوف (هو معتقل حالياً) إلى الساحة واستنجد بالحراسات الموجودين على السطح ورمى لهم حبلاً وكان الشباب في أثره إلا أنّ إطلاق النار من قوة الحراسة حال بينهم وبين الوصول إليه فانتشله الحرس إلى أعلى وسقط بعض الشباب جرحى، بينما فرّ عطية إلى القاطع الخامس واحتمى بالحجرة رقم (2) ومن بين من كانوا بهذه الحجرة الشيخ عبدالله اجمال (مصراتة) والشيخ محمد أبوسدرة (البيضاء) فاستجار بهم (عطية) وطلب منهم الأمان فأعطوه الأمان وردّوا عنه الشباب، أما الحرس عمر الترهوني فقد قتل، وكان المقطوف وعطية قد نالتهما ضربات مؤلمة وجراح قبل تمكنهما من النجاة.
وهنا بدأ الشباب كسر الأقفال وفتح الأبواب ففتحوا كل العنابر ما عدا الأول والثاني والشيلات نظراً لوجود باب في الممر الرئيسي للسجن يعزل القاطعين الأول والثاني أما الشيلات (الانفرادي) فوجود فتحة في الأعلى كانت مجالاً للرماية المستمرة على من يتحرك وقد كانت حصيلة الشهداء بين السجناء في اليوم الأول ستة شهداء هم : 1- خالد كريّم العقيلي 2- أحمد الغربي 3- جلال الجامعي 4- يونس صبحي المغربي (إجدابيا) 5- عبدالواحد سويري (بنغازي) كما جرح عشرون سجيناً بسبب إطلاق النار في الساحة وعبر الممرات وبعد حوالي ساعة من بدء الانتفاضة تمكنت كتائب الأمن من السيطرة على الموقف وطوقت السجن يقال إنّ آمر السجن (عامر بنودة المسلاتي) صعد وخاطب السجناء من فوق القاطع الثالث فبصقوا عليه وطردوه ثمّ تمكن الحرس من مخاطبة أحد السجناء وهو عبدالوهاب الشماخي وقالوا له نريد واحداً من السجناء للتفاهم.
وهنا تقدّم مفتاح الدوادي وقال: نريد عبدالله السنوسي، فقالوا له : إنه موجود ، وسمحوا لثلاثة بالخروج لمقابلته وهم: مفتاح الدوادي (صبراتة) ومحمد غليو (مصراتة) وعبدالوهاب الشمّاخي (الجبل الغربي) فوجدوا عبدالله السنوسي وراء القاطع الثاني للمركزيّ كان يهدد ويتوعد ويتهكم في نفس الوقت وقال: “نقدر نمسحكم والعالم ما يسمعش بيكم أو نقطع الماء عليكم أسبوع وتموتوا” ثم أخذ يهدأ ويسأل: “لا باس شنو فيه ؟ خيركم؟ ” فقال له الثلاثة: الناس تموت من الجوع والمرض فأخذ يتهكم ثم قال : “قبل كل شيء أدخلوا السجناء ثم نتحدث”
ودخل المفاوضون الثلاثة إلا أنّ الوضع لم يكن أحدٌ يملك السيطرة عليه، شباب فتحوا الأبواب والتقوا عقب عزلٍ مريرٍ وقاسٍ، ثمّ اجتمع رأي أبرز وجوه ووجهاء السجناء على كتابة المطالب و قالوا: يخرج من كل قاطع شخص لتمثيل القاطع فاختير الشيخ محمّد جويلي (عضو المؤتمر الوطني حالياً) عن القاطع الثالث ومحمد غليو عن القاطع الرابع ومحمد أبوسدرة عن القاطع الخامس ومفتاح الدوادي عن القاطع السادس أما القاطعان الأول والثاني فلم يتمكن السجناء من فتحهما وكذلك (الشيلات) كما تقدم ذكره، وخرج الأربعة عند المغرب فوجدوا عبدالله السنوسي و عبدالله منصور ومعهما ثالث ربما يكون فرج أبوغالية أو سالم الرياني والأول هو الأقرب
وصار المفاوضون يترددون بين الجلادين والسجناء يدخلون ثم يخرجون حوالي أربع مرات وذكروا طلبات السجناء المتمثلة في : الزيارة والمحاكمة والعلاج وتقليل العدد داخل الحجرات وقفل الإذاعة التي تؤذي السجناء على مدار اليوم والليلة، وهنا ضرب عبدالله منصور صدره وقال : “الطلبات تحققت” فردّ عبدالله السنوسي وقال عن عبدالله منصور: ” هذا راجل إبدوي – أي بدويّ– خلوكم منّا” وأشار إلى أننا سننظر في الطلبات وندرسها ولم يعد بشيء. ثم طلبوا إخراج جثت الشهداء وقتيل الحرس، ثم الجرحى ثمّ المرضى الذين يعانون معاناة شديدة وعددهم 140 مريضاً….
_______________
المصدر: مذكرات الكاتب على الفيسبوك