المناضل علي بشير يتذكر: رفقة الشهيد في رحلة عودته إلى الوطن وملابسات استشهاده، وأحداث أخرى

هذه سردية أحد رفاق الشهيد الذين عبروا الحدود معه نحو الوطن، يحكي فيها تجربته مع مجموعة بدر وعن دخولهم إلى أرض الوطن وعن ملابسات استشهاد الحاج أحمد، وعن اعتقاله ورفيقه الآخر في تلك الرحلة، وعن تجربته في سجن بوسليم وغيرها من الذكريات.

بقلم علي بشير حمودة

الجزء الثاني عشر

كان ما حدث للدكتور عمران التربي مع بوزيد دوردة مشكلة فتحت عليه وعلينا باب توقعات وحيرة وتوجس لا حدود لهما، فقد كان في موقف صعب فهو سجين في أبي سليم ورهينة بيد من لا يعرفون إلا تحقيق مصالحهم وأغراضهم وبأي وسيلة تخطر على بالهم ولا يهتمون لحال خصم أو حتى موالٍ لهم، ولكن الله لطيف بالعباد مهما ادلهمت الخطوب وضاقت السبل، كنت قريباً في هذه اللحظات من د. عمران فكان يستشيرني وبعض الإخوة في هذا الموضوع وكنا نرتب خطوات التعامل مع الموقف بحسابات وحكمة وحذر، هم يريدون منه أن يقنع أخاه – فتحي بأن يكف ويسكت و د. عمران يريد استثمار الموقف وإيصال رسالة ما ولا يريد لأخيه أن يسكت، ولم يكن ينقصه الذكاء والدهاء وكان موفقاً وحكيماً، ثم كان من أمر الله ما كان فقد تسارعت وتيرة الأحداث ودخل القذافي وأعوانه فيما شغلهم عنا والتفت عليهم حبال القدر وعواقب سوء التقدير والنظر ووجدوا أنفسهم فيما ليس لهم منه بدّ وهم أحرص الناس على الدنيا والحياة.

بدأت أحوال السجن تدخل مرحلة جديدة، والوعود على ألسنة (الرويمي) تتوالى وفتحت العيادة وجيء لها ببعض احتياجاتها وتولى أطباء من (السجناء) وعلى رأسهم د/ عمران التربي (أخصائي أسنان) ود/ محمد الرجباني (أخصائي جراحة) القيام بأعباء العيادة خير قيام ولدرجة الإرهاق ومعهما بعض الإخوة يساعدونهما في التنظيف والتعقيم، وكان حال كثيرٍ من السجناء مؤلماً ومرّاً عقب تلك السنين والأحداث الجسام، و المعاناة مع الأمراض المزمنة والفتاكة التي تنخر أحشاء وأطراف السجناء الذين مضت عليهم السنون تحت أقبية السجون ووقع عليهم غضب وانتقام معمر القذافي مبكراً ومنذ بدايات عهده حين كان في أوج شبابه وعنفوانه وكبريائه وطغيانه، كان د. الرجباني ود. التربي يعودان آخر النهار إلى حجرتيهما مرهقين يتحدثان عن أمراض ومعاناة السجناء وما استطاعا القيام به، ومعهما الأخبار أيضاً.

وفي هذه الآونة أيضاً فتحت الزيارة ورؤية الأهل التي كانت موقوفة – بالنسبة لنامنذ سنة 1996م ومع هذا الانفتاح بدأت تساؤلاتنا وتحليلاتنا للأمور فنحن ولاشك بشرٌ نفرح لكل ما فيه تخفيف الهمّ والمعاناة لنا ولغيرنا و سعدنا للانفراج الذي غدونا نجد بعض مظاهره ولكن للحقيقة والتاريخ كان في تقديرنا ووعينا وتقييمنا الثابت للأمور أنه انفراج ممزوج بمرارات وغصص وكدر الألم والحسرة.

الجلادون والمجرمون هم اليوم يريدون أن يظهروا – على حسابنا بثوب جديد يرتدونه فوق جلد وثوب حقيقي لا يزال تحت لباس الخداع و الدور الذي يمثلونه أمام العالم مكرهين لا مختارين – و لا تزال فلتات ألسنتهم ولسان كبيرهم تؤكد حقيقة ما يبطنونه ويخفونه في أنفسهم، وبدأت الأخبار عقب تواصلنا مع بقية السجناء في السجن المركزي والقواطع الأخرى ترد مفصلة عن المذبحة وكيف جرت أحداثها وتصدر عن بعض الحرس الإشارات والتلميحات خصوصا مع إحساس بعضهم بأنهم ربما سيدفعون الثمن، ويكونون كباش فداء في تمثيلية تبرئ السادة وتدين الخدم، وكان من السجناء من يجيد الإيحاء للحرس بذلك ويستدرجهم للحديث والاعتراف، ومن الطرائف – وشر البلية ما يضحك أن أحد الحراس حين سئل عما حدث وكاد يفرغ ما بجعبته عن مذبحة بوسليم لكنه فطن لخطورة موقفه فقال بعفوية وسذاجة: “أنا لا قتلتْ ولا حفرتْ ولا ردمتْويا لها من عبارة بليغة فيها خلاصة المأساة وتفاصيل ما حدث فعلاً.

ومن المآسي التي لا ننساها أنّ أهالي شهداء المجزرة كانوا يأتون لباب السجن فيسألون عن أبنائهم وآبائهم وإخوانهم فيقال لهم: إنهم بخير وموجودون، وتكون معهم أشياء يحملونها لمن يسألون عنهم، فتؤخذ منهم ولقد كان مصير هذه البضائع التي تدخل أن تكون غنيمة لآمر السجن الذي يجمع هو وأعوانه ما خف وزنه وغلا ثمنه أما ما هو سريع التلف فيترك أو يقع بيد شباب الخدمات فيأتون به للقواطع، وكنا نعثر على بعض القصاصات المكتوبة والتي كانت تترقرق لها المدامع وتتقطع الأفئدة.

ومضى الحال على هذا المنوال إلى أن فتحت عقب الانفتاح الزيارات لنا ولبقية القواطع، كان الكثيرون يحاولون إيصال الحقيقة لأهالي الضحايا ولكن الكثيرين منهم كانوا لا يصدقون ويؤمّلون ويودّون غير ذلك، ويقولون: لا قالوا وسمعنا أنهم هم في المكان كذا والمكان كذا !!! إلى بدأت البلاغات تصل العائلات والتي كلفت بها مديريات الأمن الداخلي وقيادات القذافي الشعبية وكانت هذه البلاغات على دفعات وبتوزيع جغرافي مدروس، وكانوا يكذبون على الناس ويزورون الحقيقة بما يضعونه من تواريخ وأسباب الوفاة.

في نهاية شهر أغسطس عام 2000م وفجأة ودون سابق علم دخل الحرس إلى القاطع لينادي على قائمة أسماء اثني عشر سجيناً للإفراج عنها وهم: عبدالقادر الأصيفر، محمد الناجمي، جمعة الجازوي – رحمة الله عليهمنوري عموش، هليل البيجو، صالح العلاقي، بشير بعيو، عوض السعداوي المنفي، أحمد معاند، الدكتور عبدالمنعم بحيري، عبدالحميد عمّار، محمّد الكبير وهذه أول مرة يتم الإفراج عن دفعة بهذا العدد من المائة المستثناة عام 1988م والتي علمنا فيما بعد من أحد عناصر إدارة السجن – إبراهيم التبروري الحطماني أنهم كانوا يطلقون علينا اسم: (الماعدا) أي كلما تحدثوا عن إفراجات أو ما شابهها يستثنون المائة ويقولون: ما عدا المئة ماعدا.. ماعداوهكذا من كثرة تكرارها عرفت بينهم بـ (الماعدا)

وكان هذا الذي حدث بلا شك حدثاً كبيراً بالنسبة لنا وكذلك بالنظر لظروف بعض هؤلاء الصحية والعائلية قد بلغت ما بلغت من الأسى، وأذكر أن فرحة هؤلاء كانت منغصة منقوصة لأنهم سيخرجون ويتركون إخوة لهم جمعتهم بهم سنين العشرة الطويلة داخل تلك الأقبية المعزولة عن الحياة والأحياء وتقاسموا خلالها كل ما مرّ بهم من كروب وشدائد ثقال وعاشوا أيضاً ساعات وأجواء السكينة والمودة والسرور التي أضفاها عليهم إيمانهم بالله وعراقة أصولهم ومعادنهم وطيبة منشأهم وحسن أخلاقهم، ها هم يفترقون ويغادرون هذه البقعة من أرض الله التي ذاقوا فيها الظلم و تركوا فيها أطيب الآثار وأجمل الذكريات ولا يدرون هل سيلتقون بعدها أم لا ؟

كان عبدالحكيم الرويمي مع طاقمه الجديد يتحرك في نشوة و نشاط يحار المنصف في دوافعهما حقاً وكان ينادي بنفسه و بأعلى صوته و يطالب المفرج عنهم بسرعة الخروج، ومن الطرائف التي أذكرها له أنه كان وبطريقته يطمئن الباقين بأنهم سيخرجون فيقول : “غير خيركم ؟ موش هذا حدّ السو يظنها عبارة في محلها، عند الباب الرئيسي للعنبر كان العقيد عامراً المسلاتي واقفاً وهو مصدوم لا يبدي أي حركة أو تعبير ويبدو لي أنه كان يستعرض ما كان على يديه من قتل وعجرفة وتنكيل والمذبحة الرهيبة ويتخيل ما هو آت و يدرك في هذه اللحظات أنّ زمنه قد ولى و دوره قد انتهى وجاء دور غيره.

وفعلاً لم يمض وقت حتى سمعنا أن عامراً هذا أخذ يهذي ويصدر عنه ما لا يروق لأسياده الذين استهلكوه واستغنوا عنه فتمّ إيقافه ثم ألم به داء أفضى به إلى المستشفى ومما سمعته أنه أصيب باحتباس في المسالك وشاء الله أن يكون علاجه على يد دكتور سبق وأن ذاق ويلاته في السجن وها هو اليوم طريح يتألم بين يديه فسبحان المدبر الحكيم ! فعرفه بنفسه وقال له: لقد كنت تعذبني وتعاملني أسوأ معاملة ولكنني لن أعاملك كما عاملتني وسأعالجك!! فتخيل معي شعوره عند ذلك ؟! ثم أدركه الموت وواراه التراب وعند الله تجتمع الخصوم.

وفي ذات اليوم الذي أفرج فيه عن الاثني عشر سجيناً تم إبلاغ مجموعة أسماء أخرى بأنها ستخرج أيضاً، فأخذت تستعد وتنتظر وطال التسويف والانتظار حتى مضت سنة أخرى من ذلك التاريخ، مما كان له أثره على نفوس الجميع، ولكنها الأمور المتوقعة وغير غريبة أن تقع في سجون القذافي، وتأقلم الإخوة مع الحال ولم ينقطع الأمل والرجاء في الله.

وبدأت عملية الانفتاح داخل السجن تنتقل من حالة لأخرى، بدأت لأول مرّة الزيارات بين السجناء وكانت في بداية الأمر بإذن الإدارة الخاص لمن هم أقارب، ثم تدرجت وتساهل الحرس شيئاً فشيئاً، قد يكون الأمر وفق خطة بقصد وغاية وقد لا يكون شيء من هذا أو ذاك، المهم أننا بدأنا نلتقي ببعض من كانوا يسمعون عنا و نسمع عنهم وتربطنا بهم المراسلة السرية، هم مشتاقون لرؤية القدامي مجموعة (الـ 100) ونحن في حاجة للتواصل مع شباب حديثي عهد بخارج السجن وحال البلاد.

الإخوان المسلمون في القاطع الخامس وبقية شباب المقاتلة والسرايا والكتائب وكذلك تواصلنا مع مجموعة اجدابيا وقضية أكتوبر 1993م، وخلال بدايات الأسبوع الأخير من شهر أغسطس أبلغت المجموعة التي تأجل خروجها بأنها ستخرج هذه المرّة وحين تأكد الأمر انهال الإخوة من القواطع الأخرى على قاطعنا للوداع والوصايا وغيرها، لكن الإخوة رأوا أن يكون يوم ثلاثين وعشيته تحديداً يوم احتفالية وتوديع خاص بيننا في القاطع الأول لاعتبارات لن يكون لها مكان إذا ما امتلأ القاطع ببقية السجناء وكان موقفاً صعباً لكن الجميع رضي وتفهّم الموقف….

وحين تأكد نبأ الإفراج عن هذه المجموعة قام الإخوة المفرج عنهم بتوزيع بعض أمتعتهم وما بحوزتهم مما يصلح لاستعمال غيرهم على من بقي من إخوانهم في القاطع الأول وأوصوا ببعضها الآخر لمن هم في القواطع الأخرى، وجاء السجناء من القواطع الأخرى يُودّعون ويُوصُون، ثم كان الحفل المتواضع الذي قام به الإخوة عشية الأحد 7 رجب 1422هـ الموافق 26 أغسطس 2001م حيث أعدت بعض الأكلات والمشروبات المتوفرة وألقيت كلمات التوديع وامتزجت فرحتنا وفرحة إخوتنا بالخروج من هذا الغيهب بحزن الفقد والفراغ الكبير الذي سيتركه هؤلاء الذين ربطتنا بهم الصلات الوثيقات وألفنا لقاءهم ورؤيتهم، وهاهم سيخرجون ولهخ الحمد، ومن ذا يدري ماذا سيكون بعد؟ لاسيما في تلك الظروف التي لم يكن أحد ليتصور ما الذي قد يقع من بعدها وكيف ستكون مجريات الأحداث وتلقبات الأوضاع ومفاجآتها.

فكل شيء كان متوقعاً وهو رهن مزاج طاغية مستبد، في تلك العشية وعند النصف الداخلي من العنبر رقم (1) جلس بقية المائة من السجناء القدماء والذين سيفرج عنهم على قطع البطاطين والحُصر التي فرشت، وبين الحجرتين السابعة والثامنة – أقصى داخل العنبر وضعت منضدة صغيرة لتكون منبراً للكلمات التي ابتدأها الدكتور ونيس الشاعري رحمه الله وجاء فيها: “الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين، الرحمة المُهداة للعالمين، إنما الحياة انتظار، ينتظر الإنسانَ أهلُه أن يكبر، ثم ينتظرونه أن ينجح، ثم ينتظرونه أن يتزوج، ثم ينتظرونه أن يكون له أولاد، وينتظر هو أن يكبر، وينتظر نجاحه، وينتظر أولاده وينتظر المال وينتظر السعادة، والسعيدُ من ينتظر الموت في كل لحظة، ويجعل الآخرة نصب عينيه، أتحدّثُ وأنا أشعر أنّ الدّموع تغالبني

ثم قام الدكتور ونيس بتقديم السيد أحمد الزبير السنوسي ليتحدّث بالأصالة عن نفسه ونيابة عن زملائه المفرج عنهم: فقال: “بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلّم على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، إخوتي الأعزاء: يا من صهرتنا وإياكم المحنة سنين عجاف، وجمعتنا محبة في الله وهدف سامٍ بذلنا في سبيله الأرواح، فمنا من قضى نحبه وصعد إلى بارئه يشكو عسف الذين لا يرحمون مَن في الأرض كما أمر ربّ الأرض والسماء، ومنا مَن كُتب له البقاء ويرجو من الله أن يمنّ عليه بالفرج ولقاء الأحباب، فرحم الله من قضى نحبه، وأجزل الأجر لمن صبر على الابتلاء. كلما حاولت أن أقول الوداع لأحبةٍ عشنا وإياهم أكثر مما عشناه مع ذوينا، ولقينا وإياهم في سبيل غايتنا السامية ما لقينا، تشدّني الذكريات إلى الوراء وتمر بي في تسلسل عجيب صور طبعت في الذاكرة تقول لي: لو فضلت البقاء، فالفرحة الناقصة همٌّ وتنغيص لمن سيمضي لأهله ولمن كُتب عليه البقاء، ولكن كل أمورنا مقدّرة من لدُن الذي جعل لكل أجل كتاباً، وهذا ما يطمئن النفس ويُلزمها بتفويض أمرها إلى الله [إنّ الله بصير بالعباد] ولعلّ الله ادّخر الخير فيما اختاره لكلينا؛ أليس الله لطيفاً بعباده؟ وكم لله من لُطفٍ خفيٍّ يدقّ خفاه عن فهم الذكيّ إذا ضاقت بك الأسباب يوماً فثق بالواحد الأحد العليّ.

بهذه الكلمات التي لا تفي حق الصحبة والعشرة كما ينبغي لقصر باع كاتبها نتوجه بشكرنا وامتناننا لكل أخ كريم ساعدنا على اجتياز الامتحان بعطائه الفيّاض، وكان وجوده رحمة في هذا المكان رغم ما فيه من قسوة، لا أقول فلاناً ولا فلاناً فكل واحد كان له دور حسْب قدراته التي وهبها الله له، إخوتنا الأعزاء: سنغادركم وأعيننا تفيض من الدمع حزَناً على الفراق، راجين منكم العفو والصفح عن كل إساءة حدثت منا سهواً أو عمداً، ولكم منا كلّ السماح، فكلنا خطّاء وخير الخطائين التوابون، فاستعينوا بالله واصبروا : فما بين غمضة عينٍ وانتباهتها يغيّر الله من حال إلى حال. وأحسنوا العِشرة وصفوا النفوس من أدرانها لعلّ الله يرحمكم بسببها، نستمطر شآبيب الرحمة لشهدائنا، ونسأله الفرج بعزّة وتمكين لمن بقي بعدنا، ولا تنسونا من صالح الدعاء، نستودعكم الله الذي لا تضيع لديه الودائع وإلى لقاء قريب والسلام عليكم ورحمة الله.”

ثم أعطيت الكلمة لمرزوق المجذوب الفاخري ليتحدث باسم من بقي من المجموعة فقال: “بسم الله الرحمن الرحيم أيها الإخوة الأعزاء نحتفل اليوم بالإفراج عن مجموعة من زملائنا الذين كانوا معنا وذاقوا معنا ويلات هذا السجن والتقينا بهم منذ أكثر من ثلاثة عشر عاماً (يقصد اللقاء الذي كان عقب إفراجات عام 1988م) كلها كانت مودّة ومحبّة رغم ما فيها من الأشياء البسيطة التي تحدث في الأسرة والعائلة، ولكن الحمد لله رب العالمين الذي مكننا أن نعيش طيلة هذه المدّة ونحن متوادّون متحابون نشارك بعضنا بعضاً في السرّاء والضرّاء، وفي هذا اليوم نحن فرحون بالإفراج عن جميع هؤلاء الإخوة، فرحون من قلوبنا لأنّ الله سبحانه وتعالى يسّر لهم الأمر، وندعو الله أن يشملنا برحمته وأن يكون لقاؤنا بهم قريباً إن شاء الله، ونحن في هذا اليوم المبارك السعيد الذي نحتفل فيه رغم أن الإخوة الذين يشملهم الإفراج ناقصة فرحتهم نتيجة لبقائنا، ولكن نحن نقول لكم: إننا نحن معكم نفرح لفرحكم ونحن مسرورون جداً لخروجكم من هذا المكان وأدعو الله لنا أن يفك أسرنا جميعاً وأن يُلحقنا بكم في في القريب العاجل، إنّ اللقاء والعلاقات الحميدة الجمبلة التي تمت بيننا دون سابق معرفة لأغلبنا ثلاثة عشر سنةً التقينا حقيقةً على المحبّة والمودّة وأصبحنا أسرة واحدة ؛ نفس المشاكل ونفس الهموم ونفس الظروف وفي الأفراح وفي كل شيء تقاسمناها مع بعض، تقاسمنا الأكل وتقاسمنا المودّة وكل شيء بيننا قسمة، والآن أنتم ذاهبون إلى أهلكم وذويكم، ندعو الله أن تجدوا أسركم وأبناءكم وأزواجكم وإخوانكم وأخواتكم بخير وسلام وأن يُوصلكم سالمين غانمين وأن يفتح عليكم أبواب رزقه وأن تكونوا معززين مكرمين في وطنكم وأن يُلحقنا بكم وأن يُنزل الصبر والسكينة على أهلنا الذين ينتظروننا وندعو أن يُسامح بعضنا بعضاً، ربما فينا من له بعض الملاحظات على زميله أو صديقه نرجو في هذا اليوم المبارك السعيد أن ننسى أيّ شيء حصل، وأن نتسامح ونتوادّ وأن نفترق على محبّة ولنا لقاء قريب بإذن الله سبحانه وتعالى خارج هذا المكان، وإنه قريب، وإنني متأكد أنّ الله سبحانه وتعالى لن يخذلنا وأنه سيفرج عنا في أقرب وقت وندعو الله سبحانه وتعالى أن يقبل دعاءنا ، لكم الشكر، وبالنسبة لي أدعو الله سبحانه وتعالى ألا أكون قد قصرتُ في خدمة أحد منكم (مرزوق كان يتولى خدمات العنبر من توزيع الطعام وغيره وقدّم الكثير للجميع جزاه الله عنا كل خير) وإذا حصل مني أي تقصير تجاه أيّ أحد أرجو أن يسامحني وأنا من نفسي أسامحكم جميعاً أسامحكم جميعاً والسلام عليكم ورحمة الله،

ثمّ أعطيت لي الكلمة و كانت لي مشاركة تمثلت في خاطرة شعرية خطرت لي ليلة ذلك اليوم عنوانها: وداع ليس يشبهه وداع : وداع ليس يشبهه وداع تباينت المجامع والبقاعلساني عاجز عن بعض قوليوأعجز منه يا صاحي اليراعوتحضرني وتزدحم المعانيلها من فرط رغبتها نزاعويُختزل المدى في لمح عينوللدمع ائتلاق واندفاعتمثلت السنين لها حديثٌ تخاطبني ويأسرني استماعوسلطان المشاعر مستبدٌأوامره برمتها تُطاعوما في القلب إلا الودّ صفواًأراه اليوم وقفاً لا يُباعنودّع من ألفناهم بحقوعن قربٍ تعارفت الطباعسل الحجرات عن ذكرى اللياليوقل يا دار قد آن الوداعنودعكم إلى دار وأهلهمُ الأولى وللقيا جياعونلحقكم على شوقٍ قريباًويُبحر بعد محنته الشراعهي الآلام للآمال زادغداً تغدو فضائلها تُذاعوللأجيال فيها ألف درسٍووعي لا يُدانيه اطلاعمشيناها خطىً كتبت عليناوعشناها وللأفق اتساعلها أثرٌ سيذكره وفيٌّوركب الخير ليس له انقطاعله في كل مختبر نجاحورايته يجليها ارتفاعوللفجر البهيّ بدا ابتساموعلج الليل أرهقه الصراععلى أعتاب حفرته مهيضٌأحيط به ومزقه الضياع.

كانت الكلمات توديعية تشيد بكل لحظة من الأيام التي قد خلت وكانت – مع كل ما شابها مما هو من طبيعة البشر – أياماً جسّدت التآلف والتعاون والمودّة في أحلك الليالي وأشدّ الأماكن قسوة وكانت اللحظات مؤثرة جداً تداركها بعض الإخوة بتغيير مسار الحديث إلى شيءٍ من الدُعابة تمثل في فكرة تشبه تسليم الرايات عند تخرج الدفعات العسكرية، حيث أن بعض الإخوة تميزوا بمناقب وصفات لافتة وطيبة فوضعت نماذج فنية بسيطة لكل فكرة، ويقوم المفرَج عنه المشهور بها بتسليمها لمن رشح لخلافته فيها من الباقين.

وهذه من المواقف التي لا أنساها ولا ينساها أحدٌ ممن عاشها وهي صورة من صور الحياة والمقاومة والإبداع داخل السجن، يدرك قيمتها من ذاق تجربتها أو من يحاول الانتقال بخياله إلى ذلك العالم ويستجمع مكوناته وملابساته وما يحيط به من ظروف ومن خلال ذلك يقف على قيمة ودلالة ما يقوم به سجين بين جدارن أبي سليم حُرم وعُزل وغُيّب عقوداً عن حركة الحياة والأحياء في ميدانها الطبيعيّ،

وفي اليوم التالي 27 أغسطس ضحىً خرج الإخوة من القاطع ومن سجن أبي سليم ونُقلوا إلى سجن عين زارة ومنه لإحدى القاعات (ذات العماد) ومنها أفرج عنهم، والذين شملهم الإفراج ذلك اليوم هم : 1- أحمد الزبير السنوسي (الذي أمضى حينها 31 سنة سجن) 2- د/ ونيس الشاعري 3- د/ عمران التربي 4- أحمد برنية 5– عبدالله امنينة رحمه الله 6- ناصر زميت 7– سعود المنصوري رحمه الله 8– محمد سلطان بيباص 9– عبدالمجيد بن عيسى 10– فريد المقدمي 11- هلال ديهوم العَبِيدي (بفتح العين وكسر الباء) 12– الطاهر عبدالوهاب غوقة 13– د/ عون سالم عون العلاقي 14– د/ رحيل فرج القذافي البرعصيّ 15– حسن استيتة 16– سعد الجازوي 17- عياد الهدار 18– عيسى عمر البيرة –19– علي الجرنازي 20- بشير الشريف 21- علي الشلماني 22- عبدالمنعم النجار –رحمه الله– 23- محمد حمزة 24- عيسى اشتيوي 25- فتحي قليصة 26- الزائر الأعوج الككلي 27-فائد إبراهيم فائد المجبري – رحمه الله– 28 الصديق زرتي 29- عبدالحفيظ ادبيش 30-ناجي عبدالعزيز المنفي 13- عبدالسلام الشلتات.

__________________

المصدر: مذكرات الكاتب على الفيسبوك

مقالات

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *