المناضل علي بشير يتذكر: رفقة الشهيد في رحلة عودته إلى الوطن وملابسات استشهاده، وأحداث أخرى

هذه سردية أحد رفاق الشهيد الذين عبروا الحدود معه نحو الوطن، يحكي فيها تجربته مع مجموعة بدر وعن دخولهم إلى أرض الوطن وعن ملابسات استشهاد الحاج أحمد، وعن اعتقاله ورفيقه الآخر في تلك الرحلة، وعن تجربته في سجن بوسليم وغيرها من الذكريات.

بقلم علي بشير حمودة

الجزء الثالث عشر

ولقد ترك الإخوة الذين أفرج عنهم يوم 27 أغسطس فراغاً مكانياً ونفسياً كبيراً بيننا، وصار الحديث عنهم وعن المواقف والذكريات التي كانت معهم حديث الساعة، وجلست البقية الباقية، ترتّب وضعها الجديد داخل الحجرات التي خلا بعضها بالكامل، وبعضها بقي بها شخص واحدٌ فقط أو اثنان، وصار العدد قليلاً داخل العنبر، وفي الوقت نفسه تصاعدت وتيرة الانفتاح داخل السجن، وصارت الحركة داخل السجن أكثر سهولة، ورغب بعض الشباب من القواطع الأخرى في الانتقال إلينا نظراً لشدّة الزحام عندهم وسعة المكان عندنا، وكان الكثيرون منهم يأتون لزيارة القاطع الأول ليتواصلوا مع قدماء السجناء يسألونهم عن التاريخ والأحداث وتجارب الحياة والسجن، وكنا نتواصل مع العالم الخارجي عبر هؤلاء الجدد، وكأنّ في الأمر تدرّجاً وتهيئة، تسبق الخروج.

وفي ذات الوقت كان حجم ما يردنا من معلومات وأخبار من خلال هؤلاء كبيراً جداً و لا يمكن استيعابه إلا في خطوطه الرئيسة وصورته العامة، ومن ذلك ما كان يحدثني به الإخوة من مصراتة عن الأماكن والناس والأحداث وعن أصدقائي ومعارفي؛ وكيف حدث لفلان وفلان، وأين صار فلانٌ، فكان يصعب الاحتفاظ بالتفاصيل ولكن كان يمكن تكوين انطباع عامّ، يجعلنا على نطلّ على تخوم العالم الخارجي فتتراءى لنا الصور في عمومها ولكن بدرجات ظهور ووضوح مختلفة، وكانت هذه الأحاديث مع زيارات الأهل أفكاراً وصوراً يكمل بعضها بعضاً.

ومن خلال الزيارات كنا نتابع أخبار الإخوة الذين أفرج عنهم وكتبوا إلينا الرسائل وحدّثونا بلغة خاصّة عما وقفوا عليه من أطلال الماضي ومستجدات الواقع، خرجوا وسعدوا بلقاء من انقطعوا عنهم كل هذه المدّة وسعد بهم الذين كانوا في انتظارهم، ولكنّ طول العهد وواقع الحياة ومعاناة البلد جعلتهم يعانون معاناة لها لون وطعم متميزان، وصاروا يقفون على تفاصيل كشفت حجم الجناية التي كانت عليهم وعلى آلهم وذويهم، ولولا عناية الله تعالى وطبيعة تكوين هؤلاء لكانت الصدمة لا تُبقي ولا تذر، وحتى في عالم مستقر يصعب على الإنسان التواصل عقب الانقطاع والغياب، فما بالك بالحال في بلد جعلته يدُ العبث والسفه خارج المعقول والمقبول، أو – بلغة التقنية – خارج التغطية.

وكان هذا بطبيعة الحال ذا مردود صعب علينا في البعد الشخصي والوطني، لمن يحمل همّ القضية وتطوراتها، وكانت أضحوكة ( ليبيا الغد ) ذلكم الطرح الغامض الذي حاول البعض من خلاله تلمس هامش إصلاح وتغيير في البلد ودغدغ عواطف من تلبدت غيوم اليأس في سماء رؤيتهم كما أنه استزل أقدام الكثيرين من الطامعين والطامحين والباحثين عن الأدوار وهو لم يكن – في الحقيقة– سوى غطاءً للتوريث، وخدعة وكذبة كبرى تُخفى وراءها أبشع وأخبث النوايا والمطامع والأهواء.

ولم تمض أيام على خروج الإخوة حتى جاءت أحداث 11 سبتمبر لتدخلنا في مرحلة جديدة كلٌ يراها من الزاوية التي يحب أو يكره، أو يظنّ أو يشك، وماذا بيدك أن تقول أو تفعل؟! لكنه الواقع الذي ينبغي أن نعرفه حتى لا تفاجئنا مجرياته وتقلباته.

بعد أيامٍ أيضاً توفي أحد البقية الباقية من رفاق السجن هو السيّد علي الزروق، من مدينة جادو وكان أحد الذين زودوا شباب 1984م بالسلاح، وكان هذا الرجل رجلا طيباً وكان غالب وقته هاشّاً باشّاً كريماً يسرّه أن يجود بما عنده، فاتحاً مصحفه يقرأ القرآن، شعر ذات صباح بشدّة الألم فانطلق ليدق باب القاطع طالباً العيادة، بعدأن عاينه الدكتور محمد الرجباني، وحين نُقل للمستشفى؛ أسلم الروح عند إجراء الكشف الطبي له، وكان سبب وفاته ذبحة صدرية، سبق لها وأن جاءته خفيفة لكنه لم يأبه لها ولم يُخبر عنها، ولكل أجل كتاب، وقد أصيب الجميع بحالة من الحزن العميق والأسى على فراقه ووفاته رحمه الله رحمة واسعة.

واقضتت بقية أيام العام 2001م ثم جاء عام 2002م ،ومن أبرز أحداثه صدور أحكام المحكمة الخاصة في قضية جماعة (الإخوان المسلمون) الليبية وذلك بعد عدّة جلسات وذلك يوم السادس من فبراير 2002م والتي كانت كالآتي: الحكم بالإعدام على المراقب العام للجماعة الدكتور عبدالله عزّالدّين وعلى الدكتور سالم أبوحنك، والحكم بالسجن المؤبد على ثلاث وسبعين عضو من قيادات التنظيم، و الحكم على أحد عشر عضواً بعشر سنوات، والحكم بالبراءة على ست وستين عضواً وتمّ الإفراج عمن حكموا بالبراءة، كما حكمت المحكمة على عناصر أخرى بالبراءة في قضية أخرى منهم ابن عمي عبدالمنعم عمر حمّودة والدكتور وائل عبدالعزيز (فلسطيني) وأحد أبناء الشيخ إبراهيم الترهوني –رحمه اللهوكلهم من مدينة بنغازي.

وسارت الأيام على نمطها العادي داخل السجن وتصاعدت شائعة الإفراج القريب وكثر دخول عبدالحكيم الرويمي للقاطع ، ومع الانفتاح بدأت بعض الإشكالات تظهر بين السجناء لا سيما الشباب – و الحرس ، والحقيقة هنا تقال أنّ الكثير من الحرس الذين تعوّدوا على أساليب القمع والإذلال للسجناء لم يستوعبوا الكثير مما يحدث من انفتاح ودعاية، وحسبوا أنّ الأمور تغيرت فعلاً! والكثير من الشباب لم ينسوا للحرس ما كانوا يفعلونه أيام التحقيق و في سنوات العذاب والقهر، فكانوا يذكّرونهم بما كانوا يفعلون، ويتوعدونهم ويهددونهم، وربما امتدت الأيدي على بعضهم، ولا شك أن بعض هؤلاء الشباب لم يُحسن التصرف ونسي حقيقة ما يجري، وأين يدور هذا السجال، كما أنّ أشخاصاً آخرين على مستوى الأجهزة الأمنية واللجان الثورية وداخل السجن، كانوا يتابعون ويرصدون ما يحدث، ويرفعون التقارير ويمارسون ضغطاً قوياً لإعادة الأمور لما كانت عليه، وأصبح هذا التيار يضغط يوماً بعد يوم.

وأنا هنا أتحدث وأعلم أنّ القصة لا تعدو مجرد لعبة، فلا وجود لهذا الطرف أو ذاك وإنما هي بيادق تحت عباءة معمر القذافي، وهو من يحرك الأدوات ويختار الوقت لهذا ولذاك، وجميعهم تحت حذائه ورهن إشارته، وكلٌ منهم يدرك حدود حركته، ومدى صلاحيته، وإن حدث تجاوز فلا يمكن أن يمرّ عقوبة والجزاء إلا إن كان في الهامش المتاح.

ومن الطرائف التي أرويها أنّ أحد السجناء واسمه أحمد سيف النصر كان يريد مقابلة مدير السجن (عبدالحكيم الرويمي) فكان يكتب ويطلب ويكلم باستمرار أحد خفراء الحرس (اسمه عامر) يريد العلاج لكنّه كان يماطله ولا يعبأ به، وذات مرّة قال أحمد منادياً ومتهكماً على عامراً هذا وكان أسمر اللون : ” يا بوبكر يونس نبي نقابل الرويميفإذا به ينفعل ويأخذه مباشرة ويجرّه لمكتب الرويمي وحين دخل به عليه قال: “يا أفندي أحمد هذا شتمنيفقال له : “شن قال لك فقال: ” قال لي يابوبكر يونسفضحك الرويمي حتى مال بظهره للخلف وقال له : ” كيف؟؟ بوبكر يونس ما هيش شتيمةفلم يدر المسكين كيف يرد، وأدرك حجم غبائه وخيبته، وبلغ سيف النصر ما يريد وزيادة.

ومن الأشياء التي حدثت أيضاً في هذه السنة (2002م) وهي جديرة بالتسجيل أنّ أجهزة القذافي حاولت إخراج مسرحية وقصة جديدة للتغطية على مذبحة السجن، حيث سمعنا أن إطلاقاً للنار قد وقع أثناء نقل سجناء من مكان لآخر، وشاهد الشباب تاذين يخرجون للخدمات سياراتين من سيارات نقل السجناء عليهما آثار الرصاص، وأغلق السجن علينا، ثم جاء الرويمي ليجلس في إحدى حجرات القاطع ويحاول نشر الخبر عن طريقنا وقال ما خلاصته: أن عملية نقل كبيرة تمت للسجناء لمكان ما وفي طريق الغابة حدثت محاولة لتهريبهم فتعامل معها الحرس بقوة، وسقط فيها قتلى !!! كان الرجل يتحدث حديثاً هو أول من يعلم كذبه، بل ويدرك أننا لم نكن نصدقه لأنها قصة لا تعقل ولا تنطلي على أحد مهما بلغ من السذاجة والإسفاف، ولعله كان مجبراً على قول ذلك ونشره، ثم طويت تلك القصة ولم يعد لها ذكر.

ثم وبعد فترة وخلال شهر يوليو 2002م على ما أذكر أقفلت الأبواب وأوقفت الزيارة، وتحول الحال إلى غير الحال واستدعي بعض السجناء ليقابلوا المدعو (صلاح المشري) و(وإبراهيم التبروري) وليلقوا منهم التهكم والتندر والإشارة الواضحة إلى أن أيام الرويمي والدلع الزائد قد ولت إلى غير رجعة، ويقولوا لهم: إنكم أيها السجناء قد تجاوزتم الحدّ ونسيت أنكم سجناء، ثم علمنا أن عبدالحكيم الرويمي قد أوقف عن عمله وألقي في زنزانة فردية وأنه متهمٌ بالخيانة!!! وقيل إنه ساعد سجينا من القذاذفة هو (خميس الغناي) في إرسال شريط مسجل لأهله ووصل الخبر مسامع القذافي، فكان ما كان.

ثم ظهرت قصة أخرى وهي من العجائب الغرائب، ففي إطار تلميع الصورة ومعالجة الملفات التي تراكمت وصارت عبئاً حقيقاً أمام المنظمات الدولية وحذراً من التبعات التي قد تكون نتيجة العبث والاستخفاف بالوضع القانوني والحقوقي للسجناء وحتى ينسجم الطرح والخداع الآتي مع التبرير لما حدث في الماضي بدأت بعض الأدوات المحسوبة على النيابة والقضاء بإعادة التحقيق مع القضايا التي طال عليها الأمد ولم تتعامل معها أيّ جهة قانونية.

وكانت البداية بقضية مارس 1990م والمعروفة بقضية اجدابيا الذين قبض عليهم إثر تسليم حسني مبارك لـ جاب الله مطر وعزات المقريف، ومن السخف والوضاعة التي وقعت فيها هذه الأدوات المحسوبة على الجهات القانونية أنها أرادت من السجين أن يقرّ أنه جدد أمر القبض عليه ويتم التحقيق معه الآن على أساس قانوني وتكييف صحيح للقضية، وبعد أن تم الأمر مع مجموعة اجدابيا جاء الدور على مجموعة الجبهة (1984م) لكن المسلسل توقف عقب إعادة التحقيق مع بضعة أفراد حيث تطورت الأحداث وأصبح الحديث عن إفراج قريب لبقية المئة المتبقية….

وجاء شهر أغسطس 2002م وخلال الأسبوعين الأخيرين منه شهدت إدارة السجن حركة غير اعتيادية وصار الحديث ظاهراً عن إفراج سيشمل المجموعة المتبقية، وخلال هذه الفترة دخل إلى القاطع شخص زعم أنه سجين ليبيت بيننا ويتابع ما يدور عن قرب، وقد سألته: من أين أنت؟ فأجاب : من سبها، فقلت له ومن أين في سبها؟ فقال: من الناصرية، وقد عرفنا بعدها أنه من قبيلة القذاذفة، وبدأت الإجراءات فعلاً؛ قوائم وتأكيد على الأسماء، وتصوير، وأخذ للبصمات، لكنّنا علمنا فجأة أنّ هناك استثناء لبعض السجناء من قائمة الإفراج، وأنّ جدلاً يدور بين الأجهزة الأمنية حول من سيُفرج عنهم، وحين عرضت قوائم الإفراج على محمّد المصراتي – لا صلة له بمصراتة وإنما هو لقب لحق به ضابط الشرطة والنائب العامالخ، ليضع توقيعه عليها أضاف بقلمه ملاحظة : يستثنى من الإفراجات : نوري الفلاح، وعارف دخيل، وعماد الحصائري، وصالح المؤدب –رحمه اللهوعلي حمّودة، لأنهم….، وحين رأى التهامي تهميش المصراتي على القوائم واستثناءه لبعض الأسماء قال وبلغته وهو يعني المصراتي: “الحمار قالولا وقّع وإلا أعطي رأيك؟!!!” وأخذ الورقات ولم يبال بما أشار إليه أو كتبه.

وهذه إحدى المفارقات العجيبة التي لا أجد لها تفسيراً؛ التهامي خالد الذي هو من أعتى عناصر لجان القذافي الثورية والأمنية وهو الذي تصدّر المشهد الإعلاميّ في مشانق رمضان 1984م، ورأينا منه أسوأ التنكيل وسمعنا منه أقذع أنواع السباب والبذاءة!! ها هو اليوم في ثوب آخر! ربما هي المزايدات وتسجيل النقاط، أو محاولة إظهار ولاء جديد لمرحلة لها متطلباتها من أجل البقاء، أو هي قراءة ذكية لتحولات ومخاوف لم يدركها المصراتي بعد، أو أنهم هكذا اعتادوا التعامل والمعاملة في أكاديمية الدجل والظلم والظلمات.

يوم السبت الحادي والثلاثون من أغسطس ليلاً أخذنا الحرس إلى إحدى المقرّات داخل سجن أبي سليم، لنجد التهامي خالد جالساً مرحباً هذه المرّة وليبدأنا بحديث ظاهره الرحمة وباطنه التهديد والوعيد، وقال ما خلاصته: اللي صار صار وحتى مصارين البطن يتعاركوا وممكن نبدو صفحة جديدة ويكون بينا علاقةمن حقكم أن تحتفظوا بأفكاركم، لكن ما تطلعوهاش لحد، وما فيش حدّ يكلمكم، وحتى الأجهزة الأمنية – وأشار بيده كأنه يقرص أذن أحدهم عندها تعليمات بالكف عنكم، لكن من يعود لأيّ نشاط جديد فسيحسب له الأول والتالي…. واحتد معه بعض الإخوة حول ما كان بحقهم من ظلم صارخ.. ثم انتهى اللقاء وخرجنا من عنده لنعود للقاطع.

بعض الإخوة ممن تمت محاكمتهم – أخيراًبعد ستة عشر عاماً وسبعة عشر عاماً وحُكموا بالمؤبّد: وهم السادة : نجم الدّين الناقوزي، ويوسف الأحيول (حركة الكفاح الوطني) واللذان حكما بالسجن المؤبد قبيل الإفراج بقليل والنقيب – في ذلك الوقت فرج التيح، وعبدالجليل الترهوني (قضية ضباط الصواريخ والمدفعية سنة 1986م) وكذلك عمّار مفتاح أبوسبّاط الفرجاني(طيار حربي، محاولة إنقلابية) لم يكونوا في قوائم الإفراج فحدثت حركة كبيرة بشأنهم بين القاطع والإدارة.

وفي اللحظات الأخيرة تمّ ضمّ أسمائهم للقائمة، كما ضمت القائمة إلى جانب بقية المائة بعض السجناء من قضية اجدابيا (مارس 1990م) وقضية حركة أكتوبر 1993م لتكون القائمة هكذا: 1- صالح عمر القُصبي 2- علي محمّد كاجيجي 3- العجيلي محمّد الأزهري مرموري 4- محمّد الصادق الترهوني 5- علي امحمد العكرمي 6- سالم عاشور احميد القماطي (وهؤلاء هم بقية أعضاء حزب التحرير معتقلون منذ عام 1973م عدا سالم عاشور اعتقل عام 1980م) 7- نوري حميدة الفلاح 8- عقيل رشيد السنوسي المجبري 9- علي محمّد بن عروس 10- صالح علي الدلال 11- بشير رجب حمزة 12- يوسف محمّد والي 13- محمّد يونس التومي (عضو المؤتمر الوطني حالياً) 14- يوسف حسن الأحيول(عضو المؤتمر الوطني حالياً) 15- سالم محمّد أبوديب 16- خميّس الفيتوري الجرنازي 17- بشير محمّد قرقوم 18- حسن يوسف نشنوش 19- ونيس إدريس العيساوي 20- عماد إبراهيم الحصائري 21- صالح حسين المؤدب – رحمه الله – 22- عارف فرج دخيل البرعصي 23- محمّد نجيب علي الرجباني 24- سالم عبدالقادر هارون 25- سعيد إبراهيم الشيخ 26- حسن علي يحيى معمر 27- علي محمّد البشير حمّودة 28- نجم الدّين محمّد الناقوزي 29- مرزوق أحمد الفاخري 30- فرج منصور التيح 31- عبدالجليل فرج الترهوني 32- عمّار مفتاح أبوسبّاط الفرجاني 33- د/ عبدالله عبدالقادر الأعيرج 34- حسن السائح الجعيدي 35- مجيحيد عبدالله الزوي 36- فرج مصطفى عرّيش –رحمه الله– 37- إبراهيم عوض السلاّك 38- رضا إبراهيم الكزّة 39- عادل رجب أبودرّاعة 40- المهدي عزّالدّين هلال السنوسي 41- السنوسي السيفاط أبوفروة 42- محمّد حسن المغربي 43- محمّد عبدالله المجبري 44- صالح إدريس السعيطي 45- عمر حافظ البوري 46- صلاح أحمد ليّاس 47- خالد محمّد الشوماني 48- إدريس خليفة الرياني 49- محمّد يونس المدني 50- صالح الشريف المغربي 51- صلاح محمّد الهوني 52- صالح غيث أبوذهب 53- محمّد عباس العدلي 54- نور الدّين مصطفى الشريف 55- رشيد عبدالحميد العرفية 56- عبدالسلام محمّد البرغثي 57- خالد محمّد قصيبات 58- الطيب عريقيب الجراري 59- محمّد المختار الورشفاني 60- زياد مطاوع الكويس 61- فتحي محمّد بن خيّال. 62- صلاح محمّد الصادق الكوافي.

وتم إعلامنا بأن صباح غد 1 أيلول سبتمبر سيتم نقلنا لسجن عين زارة، ومن هناك يكون الإفراج، وصباح اليوم التالي دخل علينا العديد من السجناء – الذين سمح لهم للتوديع وجهزنا أنفسنا للخروج من هذا المكان، وصرت أقلب النظر في الوجوه والمكان الذي رأينا فيه أسوأ المعاملة والظروف القاسية وعشنا فيه أيضاً أياماً جميلة هي ثمرة رحمة الله تعالى ونتاج الصلة والعلاقة الطيبة بين السجناء، واستعرضت في لحظات شريطاً طويلا للذكريات.

وذكرت إخوتنا الذين غيبّهم الأجل، واغتالتهم يدُ البطش والغدر، فلم يروا هذه اللحظات معنا وبيننا، وعساهم فيما هو خيرٍ منها وفي غنىً عنها، عند ربّ غفور، وجوار كريم، تأملتُ وجوه السجناء المودّعين لنا، ولك أن تتخيّل شعور من يغادر مكاناً ويترك وراءه أعزّاء أحبّاء حتى في الظروف العادية للحياة، فما بالك حين يتركهم في مكان كهذا وهو لا يدري كيف يكون حالهم فيه غداً؟

وما كنا نريد أن نخرج في مثل هذه الحالة و نترك خلفنا رجالاً شرفاء أوفياء رفعوا لواء حرية البلاد وكرامة الوطن العزيز، وما كنا نودّ أن نخرج في ظل ظروفٍ يحاول سدنة الباطل استغلالها لتجميل وجه المستبد وتمديد عمُر عهده البغيض، لكنها الحالة التي لا نملك إلا أن نغتنمها ونحمد الله عليها ونراها نعمةً ومنّة منه وحده جلّ جلاله، ونتضرع إليه ألا ينفع بها الطغيان في قليل أو كثير، وحتى فراق المكان لم يكن هيّناً سهلاً، وليس إلفاً للعبودية وقيودها، فأيّ حرّ يحبّ ذلك؟ لكنها أشياء أخرى تتمازج وتتفاعل في نفس الإنسان ليصبح التعبير عنها أعظم من الشعور بها، وفي هذا يحضرني قول المتنبي:

خلقتُ أَلوفاً لو رحلتُ إلى الصِّبا لفارقتُ شيبي موجعَ القلبِ باكياً

ظهر يوم الأحد ركبنا الحافلات التي أخذتنا إلى سجن عين زارة، وحين وصلنا تمّ توزيعنا على العنابر والحجرات هناك، لنمضي قرابة أربعة أيامٍ جرت خلالها أحاديث طويلة عن الحال وما بعد الخروج، ومحاولة تصوّر للحياة القادمة ومفاتيح التعامل معها، وجاء يوم الثلاثاء فأتى والدي الكريم ومعه أخي رمضان فبشرتهما وأكدت لهما نبأ الإفراج وأبعث بعض الأشياء معهما، كما رأيت في ذلك اليوم أخي وصديقي العزيز الدكتور مصطفى عبدالرحمن مازن –رحمه الله رحمة واسعة الذي جاء مسرعاً متأثراً لرؤيتنا، كأنه هو من أفرج عنه، وكان هذا أول لقاء بيننا منذ أبريل 1982م بمدينة البيضاء، فكانت لحظة لا أنساها ولا يغيب عني شعوري بها أثناءها.

ثم جاء اليوم الأخير الأربعاء، الرابع من سبتمبر 2002م حيث بدأ ومنذ الصباح الإعداد للاحتفال، فرأيناهم يُركّبون سرادقاً كبيراً ومنصة للكلمات، وبعد أن صلينا العصر دُعينا للخروج إلى ساحة السجن، ودخل أهالي من أفرج عنهم، وقد جئت ووضعت يدي في يد أخي ورفيقي عارف دخيل وكذلك صالح المؤدّب رحمه اللهوأنا أردد قول الله تعالى: ” وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًاوآثرنا الجلوس بعيداً منصّة الحفل، والنأي عن الصور و الأضواء.

وما أن انتهى برنامج الاحتفال الذي لم يطل زمنهحتى انسحبنا بهدوء، فوجدت والدي الكريم ومعه صديق قديم هو محمّد حسن أبودبوس الذي جاء بسيارة شبه حافلة – صغيرة احتياطاً لما قد يتطلبه الأمر من ركوب بعض الإخوة معنا، وانطلقنا نحو مصراتة التي غبت عنها عشرين عاماً كاملة حين غادرتها في شهر سبتمبر عام 1982م وها أنذا أعود في نفس الشهر، كنّا اثنان من مدينة مصراتة أنا والسيّد نجم الدّين الناقوزي (الذي قبض عليه يوم 27/ 7 / 1986م عقب عودته من بريطانيا، وكان هذا المناضل البطل أحد أعضاء تنظيم حركة الكفاح الوطني، التي كان على رأسها جاب الله مطر –رحمه اللهوالدكتور جمعة عتيقة، وعاشور بن خيّال، ورجب زعطوط، وقد دخل نجم الدّين للبلاد بصفة عادية وذلك ضمن خلية سريّة، وتشكيل مسلح، ضمّ المناضلين: الشهيد أحمد الثُلثي، والسيّد يوسف الأحيول – عضو المؤتمر الوطني– )

انطلقنا قبيل أذان المغرب من منطقة عين زارة مباشرة لننزل على الطريق الساحلي، فيظهر لنا البحر أزرق اللون كأجمل لوحة رائعة تراها العين في تلك اللحظات التاريخيّة من عمري، ثم نأخذ ذات اليمين عبر الطريق الساحليّ لنسمع أذان المغرب بالمسجد المقابل لبوابة غوط الرمّان بطرابلس، فنزلنا للصلاة ودخلنا المسجد.

وهنا حدث أمر طريف ما زلت أذكره وأتدبره، كان المصلون ينتظرون الإمام الذي لم يأت، كنت واقفا في الصفّ الأوّل، أرتدي قميصاً وقبعةً بيض اللون، فإذا بالمؤذن يناديني ويقول لي : أنت تعال صل بنا، فاستغربت! وتقدّمت وصليت بهم، وما زالت هذه الذكرى عالقة بذهني كلما مررتُ بذلك المسجد جيئة وذهاباً.

ثم واصلنا طريقنا، وفي منطقة الدافنية نزلنا وصلينا صلاة العشاء، ثم واصلنا سيرنا حتى دخلنا المدينة الحبيبة، عبر جسر مدخلها الغربيّ، ما ظننتُ والكثيرون أن عود إليها ثانيةً، لقد مضى زمن طويل، وكل شيء قد تغير، فما عدت أعرف شيئاً، اتسع البناء وامتدّ، وخرجت المدينة لتزحف على ما تبقى من ريف وبراري.

وأخيراً وصلنا إلى يدّر، تلك القرية الوادعة الهادئة، وتوقفنا عند المنزل، لنجد حشداً كبيراً من الأقارب والجيران والناس، وكان استقبالاً حارّاً وكانت المشهد والموقف مؤثراً، تدافع، ومصافحة، وعناق طويل، وعبارات مودّة غامرة، تختزنها تلك القلوب الطيبة، التي لم تكن أقلّ سعادة منّي.

سمعت داخل البيت الزغاريد، وكان بارود اللعب يشعله الأطفال ويرمون به، ثم دخلنا إلى صالة كبيرة، ليستمر توافد المهنئين، كباراً وصغاراً، منهم من عرفته لأول وهلة، ومنهم من استحضرتُ اسمه ولقبه خلال بحث سريع، ومنهم من تذكّرتُ صورته وغاب اسمه، ومنهم من عجزتُ عن ذكره لتغير معالمه فذكرني به أحد الواقفين معي، وكانت عبارات التهنئة لي وللوالد وللأخوة قوية وتنمّ عن روح تعاطف وتضامن كبيرين، ومن العبارات التي سمعتها لأول مرّة و جرت على ألسنة كبار السنّ – خصوصاً وما زلت أذكرها: ” اللي عنده مدّه ما تقتله شِدّه – اللي عنده مدّه ما تقتله غُدّه – الحيّ ايروّح – مع غيرها من الأقوال المعهودة في التهنئة والتعبير عنها
ثم دخلت البيت للسلام على والدتي وجدّتي –لأميوعمتي وخالتي وأخواتي، وكنت في ما يشبه الأحلام، كان المشهد لا يوصف، فرح وبكاء ودموع، وزغاريد، وموقف لم يسبق لي أن عشته أو مررتُ به، وما كنت أتوقعه بهذا الحجم والكيف، وكانت جموع النساء من الأقارب والجيران والمعارف تتوافد على الوالدة لتهنئتها ومشاركتها لحظات الفرح.

عقب ذلك عدتُ لصالة الجلوس للقاء المهنئين، واستمر ذلك لعدّة أيام، وجاء أكثر الأصدقاء والأحبة وكان اللقاء بهم بعد هذه السنين ذا نكهة ولون خاصّ منهم من جمعتنا بهم الدراسة في المرحلة الابتدائية والإعدادية والثانوية والجامعة، وبعضهم من رفاق السجن الذين جمعتني بهم المراسلة، وفي ذات الوقت افتقدتُ بعض الوجوه والأسماء التي غابت – وبعضها غاب عمداًلأسباب عديدة، وتلك هي سنّة الحياة ومفترقات الطرق، وقلّ من يبقى على العهد والودّ والشدائد خير ميزان وقياس.

وفي جوّ هذا الاستقبال الذي عشته وعاشه إخوتي المفرج عنهم في سائر مدن ليبيا؛ قرأت الكثير ممّا قرّت به عيني، وزاد به يقيني، كلّ هؤلاء الذين وجدتهم في استقبالي وبكلّ هذه الأريحية والحفاوة؛ كانوا يسجلون موقفاً نبيلاً، ويُسدون جميلاً، له معناه ودلالته ومغزاه لا سيما في تلك الأيام القاسية، وكانوا يعبرون عن بغض وكره عميق للطاغية المستبد، وأحسستُ أنه سيأتي اليوم الذي يكون فيه التعبير ذا لغة وأدوات مختلفة، ولم يخب الظنّ، فما انقضت تسع سنين؛ حتى كانت الثورة العارمة، والهبّة الكبرى التي شفى الله بها صدورنا، وأذهب بها غيظ قلوبنا، فله الحمد والمنّة، وللشهداء والشرفاء الشكر والتقدير وخالص الدعاء.

حفظ الله ليبيا الوطن الغالي وشعبها الكريم، وردّ عنا كل مكر ومكروه .

__________________

المصدر: صفحة مذكرات الكاتب على الفيسبوك

مقالات

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *